
صناعة خطاب عالمي مؤثر
لا شك أن غاندي نجح في صناعة خطاب عالمي مؤثر، وأنه حوّل الصيام إلى أداة ضغط نفسي على المستعمِر. لكن لا يجب أن نغفل السياق الذي جرى فيه هذا "الانتصار السلمي". فبريطانيا في منتصف الأربعينات لم تعد تلك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بل كانت شمسها قد بدأت بالغروب. الاقتصاد البريطاني كان منهارًا، الجيش مرهقًا، والمقاومة المسلحة تشتعل في فلسطين، واحتجاجات دامية تعصف بكينيا ومالايا. كانت بريطانيا في حاجة إلى خروج مشرّف، لا إلى مواجهة دامية جديدة في الهند الشاسعة.
غاندي، في هذا السياق، قد يكون مثّل الحلّ الأمثل لبريطانيا: مقاومة سلميّة بلا كلفة، تحظى بقبول عالمي، وتمنح الإمبراطورية فرصة الانسحاب دون أن تفقد ماء وجهها.
وهنا يجب طرح السؤال المعاكس: لو كان غاندي قد اختار الكفاح المسلح، هل كانت بريطانيا ستسمح له بالبقاء حيًّا؟
إن مقارنة بسيطة بما فعلته بريطانيا في كينيا (معسكرات تعذيب للماو ماو)، أو في فلسطين (إعدامات وقمع دموي)، أو في ماليزيا (حرب نفسية وعسكرية)، تظهر أن الإمبراطورية لم تكن لتتسامح مع أي تهديد حقيقي لمصالحها.
فلماذا "تحمّلت" بريطانيا صيام غاندي، وتركت الصحف الغربية تمجده؟ لماذا لم تسحق "ثورة البطون الخاوية" كما فعلت مع الثورات المسلحة الأخرى؟
الجواب: لأنها كانت تستعد للانسحاب أصلًا، وكان غاندي بمثابة خاتمة أنيقة لحقبة استعمارية قذرة.
أسطورة اللاعنف أقوى من الرصاص
ولذلك فإن الأسطورة التي تقول إن "اللاعنف أقوى من السلاح" تحتاج إلى تفكيك. ليس لأن اللاعنف لا يحمل قوة رمزية وأخلاقية، بل لأن هذه القوة وحدها لا تكفي إن لم تكن منسجمة مع مصالح القوى الكبرى، أو على الأقل لا تعرقلها.
إن غاندي انتصر لأنه كان يناسب المرحلة، وكان مفيدًا للطرفين: للشعب الباحث عن الاستقلال، وللإمبراطورية الباحثة عن مخرج.
لكن "ثورة الجوع" لن تُجدي في وجه من لا يشتهي السلام، ولا يخشى الإعلام، ولا يُعير الحقوق وزنًا. بل في كثير من الحالات، البطون الخاوية لا تُرعب الطغاة، بل تُغريهم بمزيد من الحصار.
فهل كانت ثورة غاندي بالفعل مقاومة؟ أم كانت مفاوضة؟
وهل خرجت بريطانيا من الهند لأنها هُزمت؟ أم لأنها قررت الرحيل، وبحثت عن الطريقة التي تحفظ بها سمعتها الإمبراطورية في لحظاتها الأخيرة؟
ربما علينا أن نعيد قراءة غاندي لا كـ"نبي للسلام"، بل كـ"خاتمة مناسبة" لحكاية استعمار عرف أن زمنه انتهى.
سلاح البطون الخاوية الخيار المفضّل لبريطانيا
وربما لم يكن غاندي مجرد زعيم "سلمي"، بل كان كذلك الخيار المفضّل لبريطانيا في مقابل زعماء المسلمين الذين بدت مواقفهم أكثر صلابة وإصرارًا على تحقيق دولة تحفظ هويتهم. كانت بريطانيا تخشى أن تنتقل القيادة إلى جماعات أو قادة دينيين أكثر استعدادًا للمواجهة، وأكثر وعيًا بخطر الهيمنة الهندوسية بعد الاستقلال. ومن هنا، كان غاندي يمثل ليس فقط الحلّ "السلمي"، بل أيضًا السدّ الذي يُعيق صعود القوى الإسلامية ذات النزعة الجهادية أو الرافضة للتعايش وفق شروط الآخر. والمسلمين الذين كانت لهم مسارات مقاومة مختلفة، وبعضهم كان يحمل خطابًا أكثر حدة وارتباطًا بالقوة والكرامة لا بالصيام والمسالمة.
في السياق التاريخي، كانت بريطانيا تخشى فعلاً من تصاعد التيارات الإسلامية الثورية، خصوصًا تلك التي تمثلت في بعض حركات علماء الهند المسلمين، وأيضًا في بوادر النزعة الاستقلالية الحازمة التي قادتها شخصيات مثل محمد علي جناح، والتي لم تكن تؤمن بأن "الاستقلال السلمي" ممكن أو كافٍ في ظل التهميش الديني والعرقي الواضح.
وبهذا، تصبح صورة "القديس" أكثر تعقيدًا: غاندي لم يكن فقط زاهدًا يقاوم بالجوع، بل جزءًا من معادلة سياسية دقيقة خدم فيها رمزيًا كواجهة للاستقلال، بينما جرى التفاوض الحقيقي بعيدًا عن مسرح الصيام والعصا.