
فكيف يمكن أن يجتمع في العقيدة الدينية هذا التناقض: الاعتراف الصريح بعدم قابلية الفهم، مع الإلزام المطلق بالإيمان؟ وكيف صارت هذه الفجوة بين العقل والنص أداة في ترسيخ السلطة باسم اللاهوت؟
سرّ لا يُفهم... لكنه مفروض
عقيدة الثالوث، التي تنص على أن الله واحد في الجوهر، وثلاثة في الأقانيم (الآب، الابن، الروح القدس)، لم تُطرح كمحاولة لفهم طبيعة الله بقدر ما كانت محاولة لتفسير التناقض بين بشرية يسوع وألوهيته، بين كونه ابن الإنسان وابن الله. فبدلًا من أن تُقدّم العقيدة تفسيرًا يُزيل الغموض، جعلت من الغموض ذاته أساسًا للإيمان.
اللاهوتيون الكنسيون يعترفون أن الثالوث لا يُمكن للعقل البشري إدراكه، ويصفونه بأنه "سر إلهي". لكن هذا الاعتراف لا يترتب عليه التخفيف من الإلزام العقائدي، بل على العكس، يصبح الغموض ذاته دليلاً على السمو، ومبررًا لرفض النقاش أو التشكيك.
لماذا تُفرض العقيدة رغم غموضها؟
الكنيسة، عبر تاريخها، لم تكتفِ بتقديم الثالوث كرمزية روحية، بل جعلته اختبارًا للطاعة. فمنذ مجمع نيقية سنة 325م، أصبح الإيمان بالثالوث معيارًا للإيمان الأرثوذكسي، ومن يُنكره يُعد هرطوقيًا، كما حدث مع آريوس الذي دعا إلى أن المسيح مخلوق لا إله.
في هذه البنية، لم يكن الغرض من العقيدة إقناع العقل، بل إخضاعه. فكل من حاول أن يُفسر الله بلغة المنطق، وخرج عن حدود "السر المقدس"، وُوجه بالإقصاء وربما القمع. وهكذا، تحوّل "الإيمان بما لا يُفهم" من موقف تواضع ديني إلى وسيلة سلطوية، تُقيد العقل باسم الغيب.
الإيمان تحت سلطة الخوف
ليس الإيمان بالثالوث مجرد مسألة لاهوتية، بل له آثار نفسية وسلوكية. فالمؤمن يُطلب منه أن يذعن لما لا يعقله، ثم يُوبخ إذا خطر له الشك. وهذا النوع من الإيمان لا يُربّى على التفكير بل على الطاعة. وهو يُنتج عقلًا يتعوّد التسليم لا السؤال، والتبرير لا الفحص، ويُرسّخ نوعًا من العجز الفكري باسم القداسة.
بل يمكن القول إن الثالوث لا يُقصد به أن يُفهم إطلاقًا، بل أن يبقى عصيًّا على الفهم، لأن في ذلك ما يرسّخ هيبة المؤسسة الدينية: إذا قبلتَ ما لا يُفهم، فإنك ستقبل ما دونه دون نقاش.
إله لا يُدرك... لكنه يحاسب؟
من زاوية نقدية، تُثير هذه البنية سؤالًا جوهريًا:
هل يُعقل أن يُطلب من الإنسان أن يؤمن بما لا يفهمه، ثم يُحاسب على التشكيك فيه؟
إذا كان الله، كما يقولون، يتجاوز إدراك العقل، فلماذا يُجعل معيار الإيمان قائمًا على تصديق ما لا يُعقل؟ وإذا كانت العقيدة غير قابلة للفهم، فلماذا تُستعمل للحكم على صدق الإيمان أو بطلانه؟
إن هذا التناقض يكشف عن أزمة أعمق: استخدام الغموض لتكريس الطاعة، واستعمال "السر" لحماية السلطة، وتحويل الإيمان من تجربة روحية حرة إلى اختبار ولاء للمؤسسة الدينية.
ما الذي يُكشف من خلال الثالوث؟
عقيدة الثالوث لا تكشف عن طبيعة الله بقدر ما تكشف عن طبيعة الخطاب الديني حين يتحوّل إلى سلطة. إنها مرآة تُظهر كيف يمكن لعقيدة غير مفهومة أن تُصبح مركزًا للسلطة، وكيف يتحوّل الإيمان من تفكر وتحرر، إلى طاعة واستسلام.
وفي نهاية المطاف، الثالوث ليس فقط سؤالًا لاهوتيًا، بل سؤالًا وجوديًا وفلسفيًا عن العلاقة بين العقل والإيمان، بين الحرية والسلطة، بين الله والمؤسسة.
إقرأ أيضا :