
ليسوا طارئين على المشهد
صهاينة العرب ليسوا ظاهرة مستجدة، بل هم امتداد تاريخي لطبقة من النخب الحاكمة والثقافية، التي رأت في المشروع الصهيوني حليفًا موضوعيًا ضد التيارات التحررية، أو القومية، أو الإسلامية. فمنذ اتفاقيات التطبيع الأولى، كان هناك من يبرر الخيانة باسم "السلام"، ومن يرى في الاحتلال الإسرائيلي "شريكًا في التنمية"، بل و"صديقًا في مواجهة الإرهاب".
لكن الموجة الجديدة من صهاينة العرب تختلف: لم يعودوا يتخفّون، بل يفاخرون بانتمائهم للخطاب الصهيوني، ويقدمون أنفسهم كمحدثين باسم "الاعتدال" و"الواقعية الجديدة". أصبح الصهيوني العربي أكثر صراحة من الصهيوني الإسرائيلي: يهاجم فلسطين، يشيطن المقاومة، ويطالب بنسيان القضية كأنها خطيئة الماضي.
الإعلام: منصة الصهينة الناعمة
إذا أردت أن ترى صهاينة العرب في أوضح تجلياتهم، فاقلب قنوات الأخبار. ستراهم مذيعين ومحللين ومغردين، يشككون في كل ما هو فلسطيني، ويضعون إسرائيل في خانة "الضحية"، ويجعلون من الاحتلال مشروعًا دفاعيًا نبيلًا. هم لا يعادون الفلسطينيين فحسب، بل يحاولون إعادة تشكيل الوعي العربي ليصبح أكثر تقبّلًا لفكرة "إسرائيل الطبيعية"، وتصفية الذاكرة الجمعية من معاني العداء التاريخي.
الخطير هنا أن الإعلام لم يعد فقط يبرر وجود الكيان، بل يشيطن من يقاومه، ويصنّف المقاومة إرهابًا، ويعرض مشاهد الموت في غزة بلا اكتراث، بينما يحتفي بإنجازات تل أبيب التكنولوجية، كما لو كانت نموذجًا يُحتذى.
من خيانة القضية إلى خيانة الهوية
صهاينة العرب لا يخونون قضيةً فقط، بل يخونون الهوية ذاتها. إنهم يتنازلون عن جوهر الوعي الجمعي الذي تشكّل لعقود حول العدالة، والاحتلال، والتحرر. وفي استعجالهم للحاق بركب "الحداثة الإسرائيلية"، يتخلّون عن معاني الكرامة والسيادة والحق التاريخي، ويتحولون إلى أدوات في مشروع نزع الذاكرة وتزييف الحاضر.
هؤلاء ليسوا مجرّد مطبّعين، بل وكلاء خطاب، يروّجون لرؤية العالم من عين تل أبيب، ويسوّقون لمشروع الإلغاء الثقافي الذي يراد له أن يمحو أي معنى للصراع. هم الوجه الآخر للصهيونية: نسخة ناطقة بالعربية، تتقن دغدغة المصطلحات الحديثة، لكنها تحمل المضمون ذاته: تفريغ الوعي العربي من أي مقاومة.
الخاتمة: لا عذر لمن يعلم
الفرق بين الصهيوني التقليدي وصهيوني الداخل، أن الأول عدو ظاهر، أما الثاني فهو عدو متخفٍّ، يلبس قناع القربى والانتماء. والخطورة الأكبر أن بعضهم مثقف أو إعلامي أو رجل دين، يلبس عباءة التنوير، بينما يحرّف المفاهيم ويُفرغها من مضمونها.
نحن لا نحاكم النوايا، بل نقرأ الخطاب والسلوك والتحالفات. وصهاينة العرب ليسوا ظاهرة هامشية، بل جزء من المعركة الكبرى على الوعي، بل هم رأس الحربة في مشروع كيّ الذاكرة، وقتل المعنى، وتصفية ما تبقى من العدل في الضمير العربي.
إن مواجهة صهاينة العرب لا تكون فقط بالرفض السياسي، بل بتعرية خطابهم، وفضح تحالفاتهم، وإعادة تثبيت المفاهيم التي يحاولون تفكيكها. فالمعركة اليوم ليست فقط مع الاحتلال على الأرض، بل مع الاحتلال داخل العقول.