
هنا، في المسافة بين القصيدة والسلوك، تبدأ القصة الحقيقية.
صورة مُعلّبة: قتلته أبياته.. أم قتلته الصورة التي لم يحتملها؟
ما زال كثير من المؤرخين، والرواة، والنقاد، يرددون أن المتنبي "قُتل بسبب بيت قاله".
بيتٌ من الشعر – هكذا تقول الرواية – جعله يتراجع عن الهرب حين واجهه خصمه فاتك الأسدي، من أتباع ضبة بن يزيد العيني، الذي هجاه المتنبي بقصيدة شهيرة: ما أنصفَ القَومُ ضَبّةْ وأمّهُ الطُّرِبَةْ......
والمتنبي لأنه "يخجل أن يفرّ وفي بيته يقول":
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
وكأن الشاعر استحى من التناقض بين قوله وفعله، فسلّم نفسه للموت ليحفظ على بيته مجده!
لكن هذه الرواية التي تكرّست في الوعي الأدبي ليست إلا سردية درامية رائقة الصياغة، ركيكة المنطق.
فمن قالها؟
ومن شهد الحادثة؟
وهل نجا أحدٌ من الموقعة ليحدّثنا عن لحظة التراجع؟
ثم، لماذا قُتل ابنه وغلامه معه؟ ولماذا لم يُقاتل كما ادعى؟ وهل كانت ميتته فعلًا "بطولية" أم هروبًا ثم سقوطًا؟
ما نملكه من الحادثة مجرد رواية نمطية صيغت لتُبرر نهاية شاعرٍ عظيم، عبر تحويله إلى شهيد لشعره، لا ضحية لعجزه.
إنها محاولة لتجميل الضعف، لا لتفسيره.
إذا أتتك مذمتي من ناقصٍ.. فهي الشهادة لي بأني كاملُ
لكن الواقع أن القصيدة كلها كانت شهادة على نزول المتنبي من مقام الحكمة والبلاغة إلى منزلق الشتيمة الشخصية، وهي ما دفع ضبة – أو من ورائه – إلى نصب كمين أودى بحياته.
ادعى النبوة... وتراجع!
من ينسى أن المتنبي ادعى النبوة في شبابه؟
قاد حركةً يُقال إنها "كيسانية"، وكان يُلقب بـ"نبي بني كندة"، ثم أُلقي القبض عليه، وقبع في السجن، وبعدها تراجع عن دعواه، وعاد إلى الشعر والمدايح.
هل ندينه لأنه تراجع؟
لا. فكل إنسان يخطئ ويتراجع.
لكن التراجع هنا يُظهر خللًا في النفس لا يُمكن تجاهله: اندفاعٌ جنوني نحو المجد، ثم انكسارٌ مريع أمام الواقع، ثم تعويض لاحق عبر الشعر.
وهذا ما يجعلنا نتساءل:
أليست صورة المتنبي اللاحقة كمفاخر بالذات، ما هي إلا محاولة مستمرة لمداواة الانكسار القديم؟
هل كان مجده الحقيقي صوتًا يعلو كي لا يُسمع صوت السقوط الذي في داخله؟
بين القصيدة والواقع: درع الكلمات وسقوط الفارس
لم يُعرف عنه أنه شارك في معركة، أو قاد جندًا، أو ثبت لموقفٍ خطير، بل تنقّل بين بلاطات السلاطين، يمدح هذا ويهجو ذاك، بحسب المكاسب والمواقف. مدح سيف الدولة، ثم كافورًا، ثم هجى كافورًا حين لم يُعطه ما يريد.
فأين الفروسية التي تتقلب حسب الراتب؟
وهل البطولة تُقاس بالبيت المقفى، أم بالموقف المكلف؟
الشجاعة لا تُقال، بل تُمارَس.
والفرق بين الشجاع الحقيقي ومن يتغنّى بالشجاعة، أن الأول يُرى في فعله، بينما الثاني يصنع من الشعر درعًا يغطي خواء الموقف.
الكرامة لا تعرف مدائح الصباح، ولا تُباع بكيس دراهم.
والفارس لا يقيم طويلًا على أبواب السلاطين.
بين الأسطورة والحقيقة
ليست المشكلة في المتنبي الشاعر.
بل في الصورة التي صنعناها عنه، ونقلناها جيلًا بعد جيل، دون مساءلة.
صورة "الفارس"، و"البطل"، و"الذي قتله شعره"، بينما الوقائع تقول غير ذلك.
وربما لا يحتاج المتنبي إلى هذا المجد الزائف أصلًا.
يكفيه أنه شاعرٌ عظيم، عبقري اللفظ، مالك ناصية البيان.
لكن تحويله إلى "أسطورة شجاعة" هو ما يقتل الحقيقة، ويُربك الوعي، ويجعلنا نخلط بين:
من يقول الشجاعة... ومن يدفع ثمنها.
ختام رمزي
ربما لم يكن المتنبي شجاعًا،
لكنه كان يعرف كيف يبدو كذلك.
وربما لم يحمل سيفًا،
لكنه كان يصنع من الكلمات سيوفًا .
ولعل هذا – في زمن الصورة – أكثر ما نخشاه:
أن تصنع القصيدة مجدًا وهميًا،
فيُدفن التاريخ تحت أقدام البلاغة.