
في قلب الظلمة التي غطّت الأرض قبل البعثة، بزغ نور لم يكن كغيره من الأنوار، نور تمهّد له القدر منذ سنين قبل أن يولد حامله. لم يكن محمد بن عبد الله نبيًا فقط، بل كان الإنسان الذي هيّأته الحياة، والكون، والنسب، والناس ليحمل الرسالة. سكنت فيه الملامح التي يعرفها قومه: الصدق، الأمانة، والنسب الطاهر، فكان معروفًا قبل أن يُبعث، مؤتمنًا قبل أن يُرسل. لم يحتج أن يثبت شرفه ولا نسبه، فقد شهد له أعداؤه قبل أصحابه. وهذه ليست سيرة، بل قراءة في التكوين الإنساني لرسول مهّد له التاريخ قبل أن يمهّد هو للبشرية طريق الخلاص.
في عالمٍ تعوّد أن يفصل بين القول والفعل، وبين المثال والواقع، جاء محمد ﷺ ليسدّ هذه الفجوة الوجودية بين الإنسان والمبدأ، بين ما يُقال وما يُعاش. لم يُبعث رسولًا هكذا فجأة، بل تهيّأ للرسالة قبلها بزمن طويل، لا بكتابٍ نزل عليه، بل بحياةٍ عاشها أمام أعين الناس، كانت هي أول "نص" نبوي شاهده المجتمع المكي دون أن يقرأه بعد.
لم يكن النبي قبل البعثة "نبيًا بالمنهج"، بل كان إنسانًا بالمثال. عاش بينهم دون أن يدعوهم، لكنه دعاهم بصمته. وما بين الأسواق، والرحلات، وتحكيم النزاعات، وبذل النصيحة، ترسخت صورته في وجدان القوم باعتباره "الصادق الأمين". وحتى حين نزل الوحي واصطدمت الرسالة بمصالح قريش، لم يجدوا في سيرته منفذًا للطعن، فقالوا: ساحر، شاعر، كاهن... لكن لم يقولوا أبدًا: كاذب.
تمهيد بدأ قبل الميلاد
لم تبدأ رحلة التهيئة لمحمد الإنسان عند وعيه الأول بالحياة، بل بدأت قبل أن يُولد. كان كل شيء يسير كأنه مُختار بعناية من وراء الغيب. فأبوه عبد الله، نجا من نذر الذبح، ثم مات بعد أن أودع في رحم آمنة نورًا لا يُطفأ. أما أمه، فلم تلبث طويلًا بعد أن وضعته، وكأن مهمتها كانت أن تُسلمه إلى الحياة، ثم تتركه لله يرعاه.
إنها سيرة لا تُقرأ كوقائع قدرية فحسب، بل كفصول من رواية تمهيدية لبعثة كونية، تبدأ من اختيار الأب، وتمرّ بلمسة الأم، وتنتهي في حضن المجهول، ليُربّيه الله كما يشاء، بعيدًا عن سلطة القبيلة، وعن وطأة الأبوّة، وعن حدود الأمومة.
النسب الذي يُغني عن طلب الشرف
لم يكن محمد ﷺ مجهولًا في نسبه، ولا غريبًا في قومه. بل وُلد في بيت كريم، من أشرف بيوت قريش، من نسلٍ لا يُطعن فيه ولا يُشكّ فيه. وهذا ليس ترفًا نَسبيًا، بل ضرورة دعوية. فقد جاء من عائلة لا يحتاج معها أن يُثبت مكانته، ولا أن يُطالب بالشرف، ولا أن يخوض معارك إثبات الذات.
لقد وُلد عزيزًا في قومه، ليكون أعزّ برسالته، لا بنسبه. فجاءت النبوة من الأعلى نسبًا، حتى لا يتهمه أحد بطلب العلو، ولا يظن أحد أن دعوته طموحٌ قبليٌّ متنكر بثوب النبوة.
إنه نسب لم يكن سببًا للتكبر، بل سُلّمًا يُعفيه من الاتهام، ويُسلّط الضوء على الرسالة، لا على صاحبها.
السيرة كمصداق للرسالة
إن أحد أعظم وجوه الإعجاز في دعوة محمد ﷺ أنها لم تبدأ من السماء، بل من الأرض. من خلقه، من نسبه، من صدقه، من أمانته. لقد كان محمد الإنسان هو البرهان الأول لمحمد النبي، ولهذا حين جاء الوحي لم يكن غريبًا على الناس، بل بدا كامتداد لما عرفوه فيه، لا انقلابًا عليه.
قريش لم تكن تجهل ما يدعو إليه، لكنها كانت ترفض أن تخضع لميزان جديد يُربك توازناتها. ولذلك لم يكن الخلاف بينهم وبين محمد ﷺ خلافًا حول صدقه، بل حول سلطة الصدق حين يصبح مهددًا لبُنى الفساد.
حين تصير الأخلاق سابقة على الوحي
في مشروع الرسالة، لم تكن الآيات القرآنية هي أول ما أقنع الناس، بل كانت السيرة. لقد جاءت الأخلاق أولًا، تليها الكلمات. وهذا درس بليغ لمن أراد التأثير دون استعلاء، والدعوة دون صخب. فمحمد ﷺ لم يكن معصومًا فقط من الذنوب، بل كان مألوفًا في إنسانيته، مفهومًا في حياته، عميقًا دون أن يدّعي، وصادقًا دون أن يصرخ.
الإنسان قبل النبي
إن الذين يقرؤون محمدًا في لحظة البعثة وحدها، يفوتهم نصف القصة. فالرجل الذي اختير ليحمل أعظم رسالة في التاريخ، لم يكن مدهشًا لغرابةٍ فيه، بل لعاديةٍ نادرة. لم يأتِ خارقًا في مظهره، ولا نازلًا من سماء مختلفة، بل جاء من الناس، وبينهم، وظلّ فيهم.
ولهذا بقيت شهادة ألدّ أعدائه فيه حتى لحظة الخلاف السياسي: "ما جرّبنا عليك كذبًا قط". إنها شهادة تُربك حتى خصومه، لأنهم كانوا أمام إنسان سبق نبوّته بالبرهان، وأثبت صدقه قبل أن ينطق به الوحي.
الرسالة التي بدأت من سيرة
ليس في الإسلام ثنائية بين المثال والواقع، لأن النموذج الأول للرسالة كان رجلًا يمشي في الأسواق، لا ملكًا في برج. ولهذا لم يكن محمد ﷺ مجرد ناقل لوحي، بل كان مرآة له في خلقه، تجسّدت فيه القيم قبل أن تُكتب في السطور.
فمحمد الإنسان هو الرسالة التي سبقت الوحي، وهو البرهان الذي مكّن الكلمة من أن تدخل القلوب، لا كأمرٍ إلهي فحسب، بل كحقٍ إنسانيّ جربه الناس من قبل أن يُملى عليهم.