الحضارة التي لم تكتمل: ماذا لو لم تنكسر الأندلس؟

ليست الأندلس مجرد أرضٍ سُلبت، بل مسارٌ حضاريٌ انكسر في منتصف الطريق. وكأن التاريخ توقّف هناك فجأة، كمن كان يصعد سلّمًا نحو الذروة ثم دُفع إلى القاع قبل أن يبلغ القمة.

فما كان يمكن أن يكون، لم يكن. والسؤال هنا ليس بكائياً، بل نقديّ: لماذا لم تكتمل تلك الحضارة؟ وماذا لو لم تُكسر؟
لقد كانت الأندلس لحظةً نادرة التوازن بين الدين والعقل، بين الروح والفكر، بين الشريعة والفلسفة. هناك، لم يكن الطبيب بالضرورة في صراعٍ مع الفقيه، ولا الشاعر في خصومةٍ مع العالِم.

كان ابن رشد يكتب شروح أرسطو، وابن زيدون يُغازل ولّادة، والزهراوي يجري العمليات الجراحية قبل أن تولد أوروبا الحديثة.

لكن تلك اللحظة توقّفت. الحضارة التي بدأت بوحي، وتطوّرت بعقل، لم يُكتب لها الاستمرار. لا لأنها استُنفدت، بل لأنها حُوصرت من الخارج وخُذلت من الداخل.

من الخارج، تكالبت عليها الممالك المسيحية في الشمال، لا بفضل تفوّقٍ حضاري، بل بفضل وحدةٍ عسكرية غذّتها الكنيسة والعقيدة الطاردة لكل اختلاف.
ومن الداخل، نخرها الصراع بين الطوائف، والتنازع بين ملوك الطوائف الذين آمن كل واحد منهم بأنه مركز الكون، ونسوا أن الحضارة لا تُبنى على المجد الشخصي بل على المشروع الجمعي.


ولو لم تنكسر الأندلس، لربما رأينا العالم الإسلامي اليوم قائدًا للحداثة، لا متلقيًا لها. ولربما كان مركز التنوير في قرطبة لا في باريس، وفي غرناطة لا في لندن.
ولو لم تنكسر، لما احتُكر التقدم العلمي بلغة واحدة، ولا فُرضت منظومة القيم الغربية بوصفها نهاية التاريخ.

لكنها انكسرت. ومنذ ذلك الحين، لم ينجح العالم الإسلامي في بناء نموذج حضاري شامل يعيد تلك اللحظة. كانت هناك نهضات جزئية، وإصلاحات مؤقتة، لكن المشروع الكلي ظلّ مفقودًا، لأنه كلما بدأت خيوط الحضارة تلتئم، عادت السكاكين نفسها لتقطعها: الاستبداد، التبعية، النزاعات المذهبية، غياب المشروع، وخيانة النخب.


إن السؤال عن "ماذا لو لم تنكسر الأندلس؟" ليس حنينًا للماضي، بل نقدًا للحاضر، وصرخة في وجه عقلٍ لا يزال أسير الهزيمة.
ولعل أول خطوة نحو مستقبل حضاري جديد، أن نقرأ لحظة الأندلس لا كقصة سقوط، بل كفرصة لم تُكتمل — لنفهم لماذا ضاعت، وكيف نمنع تكرار الضياع.

أحدث أقدم
🏠