
فالإعلام لا يكتفي بنقل ما يقع، بل يخلق أهمية لما يختار أن يعرضه، ويطمر ما يشاء بالصمت. وهكذا، يتحوّل "الحدث" من واقع موضوعي إلى قيمة ممنوحة من سلطة التغطية، وصانع التوقيت، ومن يملك الكاميرا.
كم من مرة انشغلنا كجمهور عالمي بسجال على تويتر، أو تصريح عابر، أو فيديو مفبرك، بينما كانت طائرات تقصف في مكانٍ آخر، أو قوانين تُمرر في غفلة، أو شعوب تُباد في هامش الصورة؟
إن الإعلام، حين يريد، يستطيع أن يجعل من تغريدة حدثًا، ومن حفلة زفاف قضية رأي عام، ومن مشادةٍ كلامية أزمة دبلوماسية.
وحين لا يريد، لا يرى حتى الجثث.
الحدث في هذا السياق ليس هو الفعل نفسه، بل الموقع الذي يُعطى له في الوعي الجمعي. فما يُبث، يُضخَّم. وما يُغفَل، يُمحى. ومن هنا تصبح التغطية الإعلامية شكلاً من أشكال منح الشرعية الرمزية: الشرعية لكونك موجودًا، مهمًا، مستحقًا للانتباه.
والمفارقة أن هذا التلاعب لا يصدر فقط عن نوايا سيئة، بل عن هندسة مدروسة للسرد. فحين يتم ملء الواجهة الإعلامية بـ"أحداث سطحية"، يتم فعليًا إفراغ الوعي من القدرة على التمييز، وصرف انتباهه عن البُنى العميقة التي تصوغ الواقع.
بهذا المعنى، فإن أخطر ما في الإعلام ليس "الكذب"، بل خلق الأهمية الزائفة، واحتلال مركز الوعي العام بأحداث لا وزن لها، لتهميش ما له ثقلٌ حقيقي.
وهكذا، فإن السؤال النقدي الأعمق ليس: هل هذا الخبر صحيح؟، بل:
لماذا هذا الخبر بالذات؟ ولماذا الآن؟ ولماذا يُقدّم كما لو أنه حدث مصيري؟
إن الأهم مما قيل، هو ما لم يُقل.