أنا الآخر الذي لا يشبهني: حين تُصنَع الهويات في المختبرات

في زمن فقدان المعنى، لم تعد الهوية تنبع من الذات، بل تُصبّ في قوالب مُعدّة سلفًا، كما تُصبّ المواد الكيميائية في المختبرات. هويات تُصنع لا لتنتمي، بل لتتماهى. لا لتعبر عنك، بل لتعبر بك نحو ما لا يشبهك.
في مختبرات الحداثة المعولمة، يجري خلط مركّب غريب: قليلٌ من الدين منزوع الروح، كثيرٌ من الفردانية بلا مسؤولية، جرعةٌ من الوطنية المشروطة، ونكهة خفيفة من الثقافة الشعبية المستوردة. ثم يُقال لهذا الخليط: "هذه أنت. كن سعيدًا."


لكن الهويات لا تُحقن في الأوردة، ولا تُستنسخ كبطاقات تعريف. الهوية الحقيقية تُصاغ في أعماق النفس، وتتكوّن عبر التاريخ، والمحنة، واللغة، والذاكرة. أما الهوية المصنوعة، فهي قناع، لا يُخفي الوجه فقط، بل يُخفي الإنسان.


ولأن الهويات الأصلية تُشكّل خطرًا على مشاريع الهيمنة، جرى تفكيكها واستبدالها بهويات هجينة. فالشاب المسلم أصبح "متديّنًا عصريًا" بمنتجات أمريكية، والفتاة العربية أصبحت "تحررية" على مقاس إعلانات الموضة، والمثقف أصبح "كونيًا" يتحدث لغة لا يفهمها أبناء حيه.


إنه شكل جديد من الاستعمار: استعمار ليس للأرض، بل للذات. لا يحتاج إلى جيوش، بل إلى محتوى. لا يقتحم الأوطان، بل يخترق العقول عبر الشاشة.
والمفارقة أن الضحية تبدأ تدريجيًا بالدفاع عن هذا القالب، معتقدة أنه يمثلها. تدافع عن الآخر الذي أُلصق بها، وتتبرأ من ذاتها الأصلية، خشية أن تُتهم بالرجعية أو التخلف.


لكن السؤال يظل معلقًا:
من أنا، وسط كل هذا الضجيج؟

لستُ مَن تُريد السلطة أن أكونه، ولا مَن تُقترحه الإعلانات، ولا مَن تصنعه منصات التواصل.
أنا لست الآخر الذي لا يشبهني.

أحدث أقدم
🏠