
هذا المقال يتناول الوهابية لا كتيار عقدي فحسب، بل كأداة سياسية أثّرت بعمق في شكل الحكم ومفهوم الطاعة. كيف تحوّل التوحيد إلى مبرّر للقتل؟ ولماذا كانت محاربة الداخل أسبق من مقاومة الاحتلال؟
هنا محاولة لفهم المسكوت عنه في هذا التحالف التاريخي بين العقيدة والسلطة.
الوهابية: حين تصبح العقيدة أداةً للهيمنة
نشأت الوهابية في قلب الجزيرة العربية، كدعوة تزعم محاربة الشرك والعودة إلى “التوحيد الخالص”. لكن سرعان ما اتخذت هذه الدعوة مسارًا تحالفيًا واضحًا مع القوة السياسية الصاعدة آنذاك: آل سعود.
ومنذ لحظة تلاقي العقيدة والسيف، لم تعد الوهابية مجرد مدرسة فكرية، بل تحوّلت إلى أداة مركزية لتوسيع النفوذ وتثبيت الحكم باسم الدين. كثيرًا ما صُوّب هذا المشروع إلى صدر الأمة نفسها، لا إلى “الانحراف العقدي” المزعوم.
التحالف التأسيسي: السيف باسم العقيدة
كان اللقاء بين محمد بن عبدالوهاب ومحمد بن سعود تأسيسًا لنموذج جديد من العلاقة بين الدين والسلطة. جاء الغطاء الشرعي للتوسع السياسي والعدوان العسكري تحت راية “تطهير العقيدة”، ولو كان ذلك ضد قبائل مسلمة أو مدن مقدسة.
كل من خالف هذه السلطة في الرأي أو الولاء صار مشروع تكفير واستباحة، بحجج دينية تخفي طموحًا سياسيًا جامحًا.
من الدعوة إلى القتال: العقيدة كذريعة للعدوان
منذ البداية، تحوّل شعار التوحيد إلى مشروع عنف مسلّح؛ سُجّلت مجازر ضد مسلمين بدعوى “تطهير التوحيد”.
أُعيد تأويل “الولاء والبراء” إلى تهمة تُبيح القتال، وأضحى احتكار “الإسلام الصحيح” سيفًا لكبت كل مخالِفٍ، حتى وصلت الذهنية ذاتها إلى يومنا هذا في فتاوى تُجرّم المقاومة وتخوّن الشعوب المطالبة بالعدل.
دعم الاحتلال.. حين يصبح الجهاد خروجًا
بعد سقوط الخلافة العثمانية وبداية الاحتلال الغربي، وُجّهت فتاوى الوهابية لتجريم الجهاد ضد الإنجليز واعتباره خروجًا على الحاكم، بينما اعتُبرت الخلافة نفسُها “غير شرعية”.
هكذا انقلبت الأولويات: صار العدو هو الداخل “المنحرف”، لا الاحتلال، وصار التحذير من البدعة درعًا يحمي الحاكم لا الأمة.
تديين الطاعة: من الجامية إلى التدين المدجَّن
ظهر لاحقًا طيف واسع من التيارات الوظيفية التي توحّدها غاية واحدة: ترسيخ الطاعة وتجريم الوعي.
- الجامية: تؤصّل للطاعة المطلقة وتحذّر من أي دعوة مستقلة.
- المدخلية: تعتبر الحاكم مصدر الشرعية وتُضلّل كل مخالف.
- التدين الرسمي: نسخة ساذجة، تفصل الدين عن الإصلاح وتُشيطن ما لا تفهمه.
- الدعاة الجدد للترف: يسوّقون الدين كتحفيز ذاتي فردي بلا وعي مجتمعي.
- خطباء السلطة: يروّجون الطاعة كركن ثابت، متجنبين ذكر الفساد أو الاحتلال.
في الداخل: تديُّن مروّض بلا اسم
رغم عداوة الوهابية التاريخية للتصوف، تُنتَج داخليًا نسخة ناعمة تحمل خصائص التصوف المُدجَّن: الطاعة، العزلة، السكينة، دون أي وعي أو حافز إصلاحي. تُعاد صياغة المفاهيم ليُصبح “عدم التدخل في السياسة” جوهر الدين، فتُزرع نسخة من الإسلام الوظيفي تكتفي بالطمأنينة الفردية.
تديّن الشعوب ينبع غالبًا من إيمان فطري وتجارب روحية وتقاليد مجتمعية، بينما تديّن السلطة يُصاغ وفق الحاجة السياسية. فحين يُستدعى الدين من فوق لا من داخل الناس، يتحوّل إلى أداة طاعة لا طريق هداية. وهنا يظهر الفارق الجوهري: الشعوب تتديّن لتتقرب، أما السلطة فتتديّن لتُسيطر.في الخارج: صوفية ترفيهية لتبييض وجه السلطة
خارج البلاد تُدعَم صوفية منزوعة الفكر والجهاد وتُقدَّم للغرب كنموذج “الإسلام المسالم”. إنها صوفية تُبرر الاستسلام، وتُقدَّم كبديل “مُريح” عن الإسلام الثائر.
الانتكاس: من الجهاد إلى شرعنة الترفيه
مع اتجاه الدولة للانفتاح الليبرالي، أعادت التيارات الوظيفية تموضعها: شرعنة الحفلات والتطبيع والاختلاط، واتهام من يُنكرها بـ“مخالفة ولي الأمر”.
لم يعد النص مرجعًا، بل رغبة السلطة، مما كشف أن الخطاب الديني الوظيفي كان أداة سياسية أكثر منه رؤية إصلاحية.
احتكار تمثيل الإسلام... وتسويقه عالميًا
لم تكتفِ السلطة بتحييد الإسلام النقدي داخليًا، بل تُقدّم نسختها الرسمية إلى العالم الإسلامي والعالم الخارجي على أنها هي الإسلام الصحيح. فأُنشئت مؤتمرات، ومراكز، وفتاوى عابرة للحدود، تسوّق هذا النموذج القائم على الطاعة، ونبذ الحركات، وتجريم المقاومة، وتقديس الاستقرار. وبهذا، تم تشويه صورة الإسلام النبوي الذي واجه الظلم، وصار المسلمون يُعرَّفون بعيون السلطة لا بعيون الوحي.هذه الهيمنة على تمثيل الإسلام ليست مجرد اختلاف رؤى، بل صراع على الوعي، تُراد به شرعنة السلطة لا إحياء الرسالة.
الخلاصة: من عقيدة التوحيد إلى أداة الترويض
المشكلة ليست في التوحيد، بل في احتكار تأويله وتوظيفه للقمع. حين تحوّل العالم إلى شرطي عقدي، سقطت الشرعية الأخلاقية. واليوم تُستنسخ الروح ذاتها ولو تغيّر القالب:
الخضوع بدل الوعي، التخدير بدل الإصلاح، الطاعة بدل التحرر.