يحيى السنوار: القائد المناضل الرمز… مهندس الطوفان

حين تنكسر المعايير وتخفت الأصوات، يظهر رجل يُعيد تعريف القيادة، لا بالكلمات، بل بالفعل.

يحيى السنوار لم يكن زعيمًا تقليديًا، بل خلاصة وجعٍ طويل نضج في عتمة الزنازين.خرج من الأسر لا ليبحث عن مجدٍ شخصي، بل ليحمل مشروعًا بحجم شعب وألم وطن. هو القائد الذي لا يفاوض على المبادئ، ولا يتخفّى خلف المكاتب.
وفي زمنٍ يتقن التنازلات، أصرّ هو أن يُتقن المواجهة.


في تاريخ الشعوب المقاومة، يظهر أحيانًا رجلٌ لا يأتي كخطيب ولا كزعيم إعلامي، بل كقنبلة موقوتة زرعتها السجون ونضجت في صمتها الطويل.

يحيى السنوار ليس مجرد قيادي في حماس، ولا مجرد اسم في قائمة المطلوبين، بل هو وجه جديد للمقاومة حين تقرر أن تتكلم بلغة النار لا بلاغة التصريحات. إنه الرجل الذي خرج من الأسر ليُشعل جبهة، لا ليهدأ في مكتب.


من أقبية التحقيق إلى هندسة الطوفان

قضى أكثر من عقدين في سجون الاحتلال، تحت التحقيق والعزل، ولم يخرج منها مجرد ناجٍ، بل خرج مشروعًا حيًّا للمواجهة.
خرج من زنزانته لا ليسرد الذكريات، بل ليكتب فصلًا جديدًا في معادلة الردع، حمل عنوان: طوفان الأقصى.

ذلك اليوم، حين اخترق رجال المقاومة أسطورة الأمن الإسرائيلي، لم يكن مجرد عملية، بل لحظة فارقة صنع ملامحها السنوار. لم يكن خلف الميكروفون، بل خلف الكواليس؛ يُنسّق، يخطّط، يضبط النبض... كأنّ سكونه في العلن كان يُخفي عاصفةً تتهيأ للانفجار.


القائد الذي يُخيف العدو بصمته

ما يخشاه الاحتلال في السنوار ليس سلاحه، بل شخصيته. ليس فقط لأنه “مهندس الطوفان”، بل لأنه يُجسّد نموذج القائد الذي لا يُشترى ولا يُطوّع.
هو ابن الأرض والسجن والرصاص، لم يمر عبر بوابات التطبيع، ولم يطلب منصبًا أو شهرة. ابتعد عن الإعلام، فصار حضوره طاغيًا أكثر من الذين يملأون الشاشات.


بين الجرح الشخصي والثأر الجمعي

حين استشهد شقيقه في حرب 2014، لم يركض خلف الثأر الشخصي، بل دمج ألمه في مشروع أكبر: مشروع تحرير.
هذا الرجل لا يُفرّق بين دمه ودم الناس، بين عائلته وعائلات غزة، بين حلمه وحلم شعبه، لذلك حين يقاتل لا يفعل ذلك كقائد فوقي، بل كمقاتل يحمل الجبهة على ظهره.


في زمن الخضوع… جاء هو

في مرحلة باتت فيها كثير من القيادات الفلسطينية تمارس “فن التعايش مع الاحتلال”، ظهر السنوار كصفعة سياسية وأخلاقية.
رجلٌ لا يجيد فنون التبرير ولا يتقن لغة الهزيمة المهذبة. جاء ليُعيد تعريف الصراع، لا ليُديره بواقعية مُنهكة.


رمزٌ لا يتكلم كثيرًا… لكنه يقول كل شيء

الرموز لا تصنعها الكاميرات، بل تصنعها اللحظات الفارقة، والمواقف الصلبة، والقدرة على تمثيل وجدان الشعوب.
والسنوار – من دون أن يسعى – تحوّل إلى رمز للمقاومة الصامتة التي تُفكّر وتُنفّذ ولا تُساوم.


النهاية التي لا تُشبه النهايات

لم يكن مفاجئًا أن يُستشهَد يحيى السنوار في قلب الميدان، متقدّمًا الصفوف، كما عاش دومًا.
لم يُغتَل في فراشه، ولم يُقتل في ممرّ دبلوماسي، بل رحل كما يليق برموزٍ لا تُغادر الحياة إلا وهي تكتب على جسدها آخر فصل في الحكاية.

موته لم يكن حدثًا عابرًا، بل توقيعًا دمويًا على صدقية مشروعه. مات وهو يقود، لا وهو يوقّع، مات في وجه النار، لا في ظلّ التفاهمات.

وفي زمنٍ يموت فيه القادة بين وسادتين من الصمت، اختار السنوار أن تكون آخر لحظاته صرخةً مدوّية تُعيد تعريف القيادة من جديد:
أن تكون حيث يتقدّم الناس، لا حيث تختبئ السلطة.

لقد أثبت بدمه ما عجز الكثير عن إثباته بأعمارهم:
أن صانع الطوفان لا ينجو منه... بل يغرق فيه شامخًا.



أحدث أقدم
🏠