
يحيى السنوار: القائد الذي خرج من تحت الأرض ليُعيد تعريف الكيان
حين تمرّ الدولة من النفق لا من المعبر
في زمنٍ خَفَتت فيه الهتافات، واهترأت الكلمات، وتحوّلت القيادة إلى وظيفة مكتبية تُؤدّى خلف الميكروفونات، خرج من تحت الأرض رجلٌ لا يُجيد البلاغة… لكنه يُتقن الفعل. لا يفاوض على المبادئ، ولا ينتظر المديح، ولا يَظهر إلا حين تكون اللحظة بحاجة إلى من لا يتردد.
يحيى السنوار لم يكن يومًا زعيمًا تقليديًا، ولا طارئًا على تاريخ المقاومة. بل كان خلاصة وجع نضج طويلًا في زنازين العزل الانفرادي، وخرج ليُعيد تنظيم الحكاية من جديد: حكاية من لا يطلب سلطة، بل يفرض مشروعًا؛ لا يتحدث عن السيادة، بل يعيشها ولو في النفق.
من الظل الأمني إلى هندسة المواجهة
وُلد في مخيم خان يونس عام 1962، لعائلة لاجئة هجّرها الاحتلال من مجدل عسقلان. تتلمذ على يد الشيخ أحمد ياسين، وسلك درب العمل السريّ داخل حماس، متخصّصًا في الملفات الأمنية، وضرب العملاء، وبناء جهاز استخباراتي لحماية العمق الداخلي للمقاومة. لم يكن صاحب حضور إعلامي، بل "مهندس صمت" ينسّق من خلف الستار.
في أواخر الثمانينيات، اعتقله الاحتلال وحكم عليه بأربعة مؤبدات. لم ينهَر. بل تحوّل، من معتقل إلى مؤسّس لمدرسة فكرية وتنظيمية داخل السجون، صنعت وعيًا جديدًا، وأنجبت قيادات الصف الأول في الحركة بعد صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011.
خرج السنوار من السجن بعد 23 عامًا، لكنه لم يخرج ليتقاعد أو ليكتب مذكراته. خرج ليبدأ من حيث انتهى: إعادة هندسة الجبهة الداخلية للمقاومة، من دون ضجيج، ومن دون أن يُقدَّم على الناس.
قائد بلا خطاب براقة… يُفكر كما تُفكر الأرض
في زمنٍ ازدحمت فيه الساحات بالخطباء، اختار السنوار أن يكون هو الصمت الذي يسبق العاصفة. لم يكن يبحث عن منصة، بل عن مدخل. مدخل للثأر، للكرامة، للمعنى المهدور.
وحده السنوار – ربما – من يُجسّد فكرة أن القيادة ليست تمثيلًا جماهيريًا، بل قدرة على أن تكون في قلب النار دون أن تحترق. هو الذي بقي غائبًا عن الشاشات منذ بدء "طوفان الأقصى"، لا لأنّه مختفٍ، بل لأنه كان حاضرًا في كل خطوة، في كل خطة، في كل صاروخ غادر عمق غزة نحو عصب المشروع الصهيوني.
العدو لم يُرِد قتله فقط، بل أراد اغتيال رمزيته: تلك الفكرة التي تقول إن القيادة ليست فوق الأرض، بل في عمقها… وإن الكيان الحقيقي ليس فوق الطاولة، بل في الأنفاق.
حين يصبح النفق منصة سيادة
في تشرين الأول 2023، لم تُطلق المقاومة رشقات نارية فقط، بل أطلقت ما يشبه إعلان سيادة من نوع آخر: أن هذا الكيان المحاصر، الصغير، المعزول، يملك مفاتيح المبادرة، ويد الحرب، وإرادة الزمن.
"طوفان الأقصى" لم يكن مجرد ردٍّ، بل فلسفة هجوم. حركة المقاومة لم تَعد تنظيماً يقاتل، بل بنية عسكرية أمنية سياسية قررت أن تكتب التاريخ بدمائها، لا ببياناتها. والسنوار، الذي يُنسب إليه التخطيط البعيد للمعركة، لم يظهر كقائد منتصر، بل كمفجّر للمعنى.
لهذا لم يكن استهدافه مسألة ثأر عسكري، بل محاولة قتل الفكرة ذاتها: أن تكون الدولة تمرّ عبر نفق… لا عبر اعتراف الأمم.
لا يتكلم… لكنه يقول كل شيء
السنوار هو نقيض "النجم السياسي" في زماننا العربي. لا إعلام، لا حسابات، لا ظهور متكرر. لكن حضوره في وعي العدو – قبل الصديق – كان طاغيًا. لأنه مثّل ما تخشاه تل أبيب: القائد الذي لا يُساوم، ولا يُخترق، ولا يُضبط على خط تماس المساومات.
وحين استشهد شقيقه خلال حرب 2014، لم يَجعل من دمه قضية شخصية، بل صهر الجرح في مشروع جماعي. وحين لاحقوه في الأنفاق بعد "الطوفان"، لم يتنصّل من القيادة كما يفعل الآخرون، بل اختار أن يبقى فيها حتى الرمق الأخير.
الشهادة كوثيقة صدق… لا خاتمة
لم يُعثر عليه ميتًا في فراش أو عاصمة. لم يُغتل في صفقة أو على قارعة تسوية. بل في قلب الميدان، في خانيونس، كما تؤكد كل التقارير، سقط قائدٌ لم يكن يتقمّص دورًا، بل كان هو الدور نفسه.
موته لم يكن خبرًا عسكريًا. بل كان إعلانًا سياسيًا أخيرًا: أن القادة لا يموتون حين يتوارون، بل حين يصمت مشروعهم. ومشروع السنوار لم يصمت. بل انفجر.
رجلٌ من ما بعد الخلافة… ومن قبل الدولة
في زمنٍ ماتت فيه الخلافة كحلم، والدولة كهيكل، تحوّل يحيى السنوار إلى ما يشبه النواة البديلة: مقاومة تمارس السيادة دون جغرافيا معترف بها، وقيادة لا تُصدّر نفسها للخارج، بل تبني الداخل. لم يكن يحكم غزة كزعيم، بل كان يُدير "اللامرئي" من خلف الكواليس.
والعدو الذي يملك الأقمار الصناعية والطائرات لم يستطع أن يخترق هذه البنية. لأن السنوار لم يكن مجرد شخص، بل معمار مقاومةٍ كاملة. رجلٌ من زمن السقوط… جاء ليقول إن ما تحت الأرض، أقوى مما فوقها.
