التعليم المدرسي: من الطفولة المقيّدة إلى البطالة المؤجلة

قد يبدو الصف الدراسي مكانًا بريئًا، محايدًا، مهمته النبيلة هي تثقيف الأطفال وتحضيرهم للحياة. لكن لو تأملنا بعمق في بنيته وآلياته وأسئلته المسكوت عنها، لاكتشفنا أن المدرسة ليست دائمًا كما تُصوَّر لنا. إنها ليست مجرد مكان لتلقين المعرفة، بل مصنع خفيّ للهوية والانضباط والطاعة، في مشروع طويل الأمد لإنتاج "مواطن صالح"... وفق تعريف السلطة لا وفق تعريف الحقيقة. منذ أن يجلس الطفل على المقعد، يبدأ مشروع تشكيله. عليه أن يصمت، أن لا يسأل كثيرًا، أن يعيد ما يُلقَّن له، أن لا يتجاوز حدود الكتاب، ولا يتحدى المدرّس، ولا يطرح أسئلة "فلسفية" تشكّك في المسلَّمات. هذا ليس تعليمًا... بل ترويض ناعم.


بين الجهل المقدّس والعلم المعلّب

يتباهى النظام التعليمي بعدد السنوات التي يقضيها الطالب بين الجدران، لكنه يتجاهل السؤال الأخطر:
هل علّمه كيف يفكّر… أم كيف يخضع؟

المناهج غالبًا ما تُكتب من علٍ، لتكرّس تصوّرًا معيّنًا عن العالم، وعن الوطن، وعن التاريخ، وعن الدين، وعن "العدو" و"الصديق". ويُطلب من الطالب أن يستوعبها لا أن يناقشها. فحتى الحقائق العلمية تُقدَّم في قالب "مكتمل"، لا يسمح للذهن بالتساؤل عن المنهجية أو الأفق الفلسفي للمعرفة.

النتيجة؟ عقلٌ بارع في الامتحانات، ضعيف في المحاججة. حافظٌ ممتاز، فاقدٌ للفضول. يخشى الخطأ أكثر مما يحبّ الحقيقة. طالبٌ نال الشهادة، لكنه لم يعرف نفسه.


المدرسة: جهاز ضبط اجتماعي؟

من يراقب آليات التعليم من الخارج يكتشف أن المدرسة، في نسختها الحديثة، ليست بريئة تمامًا.
هي امتداد لمشروع الدولة القومية الحديثة، التي تسعى إلى تكوين مواطنين "متجانسين" يسهل قيادتهم وضبطهم. تُوَحَّد المناهج، وتُوَحَّد الزيّات، وتُفرَض الطقوس، وتُلغى الخصوصيات، وتُهمَّش اللغات الأم، وتُعلَّب الذاكرة التاريخية.

في هذا الإطار، تصبح المدرسة جهازًا من أجهزة السلطة – كما أشار فوكو وألتوسير – لكنها ليست جهاز قمع، بل جهاز إنتاج: إنتاج السلوك والانضباط واللغة والسردية الرسمية عن كل شيء.


سنوات من العُمر… لحفظ ما لا يُفيد!

يتخرج الطالب بعد 12 سنة من التعليم المدرسي، وقد حفظ آلاف الصفحات، وأجرى مئات الامتحانات، لكنه يخرج فارغ اليدَين من المهارات، فاقد الاتجاه.
لا يعرف كيف يُصلح شيئًا، ولا كيف يكتب سيرة ذاتية، ولا كيف يدير حوارًا، ولا كيف يبدأ مشروعًا، ولا حتى كيف يختار تخصصه الجامعي بوعي.

والسؤال الذي لا يُطرح غالبًا:
لماذا نُرغم كل طالب على عبور هذا النفق الطويل نفسه، حتى لو كان لا يطمح لمسار أكاديمي؟
لماذا نُجبر من يريد أن يصبح فنيًّا أو حرفيًّا أو تقنيًّا… أن يُضيع زهرة عمره في مقررات لا تهمه، ولا تخدمه، ولن يستخدمها؟
أليس من الأجدر أن يُفتح له مسار تدريبي عملي مبكر، يُمكّنه من التدرّب على مهنته باكرًا، بدل أن يهدر وقته في الحفظ النظري العقيم؟

نحن لا نحترم التنوّع، ولا نعترف بالذكاءات المختلفة، ولا نُقدّر أن الإتقان المهني أحيانًا أنفع للمجتمع من آلاف الشهادات الصورية.


توجيه أعمى… ومسارات بلا بوصلة

حين يصل الطالب إلى المرحلة الثانوية، يُفاجأ بأنه مطالب باتخاذ "قرار مصيري": أي تخصص سيدرس؟ أي مهنة سيزاول؟
لكن كيف له أن يختار… وقد نشأ في بيئة تعليمية لم تُعرّفه بنفسه، ولا بواقعه، ولا بسوق عمله؟
فهو لم يختبر المهارات، ولا استكشف التخصصات، ولا مارس شيئًا بيده، بل ظلّ حبيس الورق والامتحان والدرجات.

ثم تأتي أنظمة "التوجيه الجامعي" كأنها صفقات توزيع… لا علاقة لها بميول الطالب، ولا بقدراته، ولا بحاجات المجتمع.
المتفوق يُدفع للطب، ثم للهندسة، ثم للصيدلة… كأننا لا نُخرّج بشرًا بل نُرتّب سِلَعًا في مخازن!

أما من لا يدخل هذه "الكليات اللامعة"، فيُعامل كأنه أقل شأنًا، ويُدفع لمسارات مهملة لا يُبذل فيها جهد حقيقي، ولا يحترمها المجتمع ولا تُهيّئه لسوق العمل.

لا أحد يخبره أن المهارة الحقيقية هي ما يصنع الكرامة والنجاح، لا اسم الكلية.
ولا أحد يشرح له أن الكفاءة المهنية ليست مرحلة ثانية بعد الفشل الأكاديمي… بل طريق أول لمن يعرف ذاته من البداية.

وهكذا نظل ندور في الحلقة:
نُنتج خريجين بلا مهارات، نُهمّش المهن، نُغرق الجامعات، ونشكو من البطالة.


حين يحترم التعليم الإنسان: نماذج من العالم

في دول مثل ألمانيا وفنلندا وسويسرا، لا يُنظر إلى التعليم المهني كخيار "دوني"، بل كمسار محترم ومطلوب، تبدأ معالمه بالظهور منذ مراحل مبكرة.
فالطالب هناك يُمنَح فرصة لاكتشاف ميوله مبكرًا، عبر تجريب المواد العملية، والمشاركة في ورش حقيقية، وزيارات ميدانية، وتوجيه مهني جاد، لا شكلي.

في ألمانيا مثلًا، يُطبّق نظام التعليم المزدوج (Dual System)، حيث يقسَّم وقت الطالب بين الدراسة الأكاديمية والتدريب العملي داخل الشركات. النتيجة؟
خريجون يُتقنون المهنة قبل أن ينالوا الشهادة، وسوق عمل يحصل على كفاءات حقيقية، واقتصاد يستفيد من طاقات لا تُهدر.

أما في فنلندا، فتُمنَح المدارس مرونة عالية في تصميم مناهج تحترم السياق المحلي، وتُركّز على المهارات الحياتية، والذكاء العاطفي، والعمل الجماعي، والابتكار، بدل الاقتصار على التلقين النظري.

الدرس البسيط؟
حين نُحسن الإنصات للفرد، ونحترم ميوله، ونثق في قدرته على الإبداع، ننتج تعليمًا يليق بالإنسان… لا مجرد مصنع لشهادات مطبوعة.


حين يُصبح الجهل المقنّن سياسة دولة

التعليم – في جوهره – ليس بريئًا.
فمن يتحكّم بالمنهج، يتحكم بما يمكن التفكير فيه، وبما يُعتبر "معقولًا" أو "محظورًا".
ولذلك لا عجب أن تُفرغ المدارس من الفلسفة، ويُهمَّش التاريخ النقدي، وتُختزل العلوم في معادلات لا تشرح شيئًا، ويُفصَل الدين عن الحياة، ويُربَّى الطفل على الطاعة أكثر مما يُربّى على الحرية.

إنه تسييس ناعم للتعليم:
لا يُعلن عن نفسه، لكنه يختار بعناية ما لا يُقال، ويصنع طلابًا يعرفون كل شيء… إلا كيف يُفكرون.

فالأنظمة السلطوية لا تخشى الجهل العشوائي، بل تخشى العبقرية الحرة.
ولذلك يُصمَّم التعليم ليقتل التفرّد، ويُطفئ الفضول، ويكافئ من يُقلّد، ويُهمّش من يُبدع.

وهكذا تُنتَج أجيال تحفظ دون أن تفهم، وتنجح دون أن تسأل، وتعيش على هامش الحياة… دون أن تجرؤ على السؤال: لماذا؟

أحدث أقدم
🏠