أردوغان: القائد الذي أعاد للهوية مقامها دون أن يعتذر

لم يكن رجب طيب أردوغان رجل دولة عاديًا، ولا رئيسًا يحكم من وراء مكاتب البروتوكول. لقد مثّل ظاهرة سياسية وفكرية أعادت إلى الساحة الإسلامية مشهد القائد الذي لا يساوم على جوهر الأمة، ولا يبيع هويتها عند أول منبر أممي. وحين تراجع الجميع إلى حدود الدولة القُطرية، انحاز أردوغان للعمق، حيث تعود الأمة إلى تاريخها لا لتتفاخر، بل لتنهض.
لقد قاد الرجل مشروعًا لم يكن هدفه فقط تحسين الاقتصاد أو إعادة تنظيم المؤسسات، بل كان مشروعًا لتحرير المعنى. المعنى الذي اختُطف طيلة قرن من الزمان منذ سقوط الخلافة، حيث جُعل الإسلام هو المشكلة، والغرب هو الجواب.

وبينما كان الجميع يُبرمجون شعوبهم لتتماهى مع النماذج الغربية، قرر أردوغان أن يُعيد تعريف تركيا نفسها، لا بوصفها ذيلًا لأوروبا، بل رأسًا في العالم الإسلامي.


قائد توازن لا تابع: حين استعادت تركيا هيبتها

في عالم يُدار بالعصا الأميركية والجزرة الروسية، تميّز أردوغان بتوازن دقيق في العلاقات الدولية. لم ينحنِ شرقًا ولا غربًا، بل جعل تركيا رقماً صعبًا يتفاوض لا يتوسّل. بين واشنطن وموسكو، بين بروكسل وبكين، بقيت أنقرة تحت قيادته تقول كلمتها، وتفرض شروطها، وتستعيد شيئًا من تلك الهيبة التي فُقدت يوم تخلّت الدولة عن هويتها، واستوردت قوالبها من “اللاذات”.


لحظة الانقلاب: حين كُشف الصراع الحقيقي

ليلة الخامس عشر من يوليو/تموز 2016 لم تكن مجرّد محاولة انقلاب عسكرية، بل كانت لحظة كاشفة لطبيعة الصراع في تركيا. لم تكن المواجهة بين أردوغان والجيش، بل بين هوية شعب يريد أن يعيش بإسلامه، ومؤسسات عميقة تعتنق العلمانية كدين بديل. كانت الجماهير التي خرجت للميادين ليست لحماية أردوغان كشخص، بل لحماية المعنى الذي مثّله: أن زمن القطيعة بين الدولة والدين قد انتهى.


الديمقراطية: وسيلة لا وثن

لم يكن أردوغان ديمقراطيًا بالمعنى الذي تهواه الصالونات الغربية. لم يتعامل مع الديمقراطية كغاية، بل كوسيلة عبّرت بها الشعوب عن ذاتها، بعد أن مُنعت طويلًا من أن تكون هي ذاتها. أعاد للديمقراطية معناها الأول: أن يُحكَم الناس بما يريدون لا بما يُراد لهم. ولذلك فإن من ينتقدونه بدعوى أنه لا “يقدّس” الحريات وفق المعيار الغربي، يغفلون أنه في تركيا لم تكن المعركة من أجل حرية “الانعتاق من الدين”، بل من أجل حرية العودة إليه.


من معاداة الأديان إلى حرية الأديان

لقد حوّل أردوغان مفهوم الحرية في تركيا من حرية معاداة الأديان إلى حرية الأديان، ومن قمع الهويات باسم الجمهورية، إلى احتضانها ضمن مشروع حضاري متماسك. لم يكن معاديًا للعلمانية كمبدأ تنظيمي، بل معاديًا للعلمانية العدائية التي أرادت استئصال كل ما يمت للإسلام بصلة. لم يمنع أحدًا من أن يكون علمانيًا، لكنه منع أن تُفرَض العلمانية كدين رسمي للدولة.


بوصلة الانتماء: من الغرب إلى العمق الإسلامي

أردوغان لم يقطع الجسور مع الغرب، لكنه رفض أن تكون تركيا في الحضن الأوروبي وهي ممدّدة على طاولة الجراحة الهووية. أعاد الانتماء إلى العمق الإسلامي، لا بشعارات راديكالية، بل بسياسات ذكية تعيد رسم التحالفات، وتربط الاقتصاد بالشرق، وتستدعي التاريخ دون أن تحوّله إلى خطاب استهلاكي. وقدّم نموذجًا لدولة تقول “نعم” للعصر، و”لا” للانسلاخ.


حضن المضطهدين: اللاجئ ليس رقماً بل أخًا

في عالم يغلق حدوده في وجه الهاربين من جحيم الحروب، فتحت تركيا أبوابها لملايين اللاجئين، لا كمراكز عبور، بل كملاذ إنساني وإسلامي. لم يكن ذلك سياسة نفعية، بل موقفًا نابعًا من فهم عميق للهوية والواجب. في زمن تُباع فيه المعاناة بالمزاد، قرر أردوغان أن يحتضن المظلوم، لأن الظلم ليس له جنسية، ولأن تركيا ليست دولة لذاتها فقط، بل هي شجرة من جذور الأمة.


وحدة الشعوب التركية: التاريخ يعود دون خُطب

حاول أردوغان إعادة تشكيل الرابطة بين الشعوب التركية في آسيا الوسطى والأناضول، لا على أساس قومي ضيق، بل على أرضية ثقافية حضارية. لم تكن دعوته لتوحيد هذه الشعوب دعوة إمبراطورية، بل رغبة في أن يتعاون المتشابهون لا لفرض أنفسهم على العالم، بل ليقفوا على أقدامهم. لقد فهم أن تركيا لا تكون قوية بانعزالها، بل باتصالها بجذورها التي تمتد إلى ما وراء حدود سايكس بيكو.


القائد الذي لم يعتذر

لقد كان أردوغان نقيض “النخبة التركية” التي كانت كلما ذكرت الإسلام اعتذرت، وكلما تحدثت عن التاريخ تنكّرت. لم يكن نبيًا ولا معصومًا، لكنّه لم يخن المعنى، ولم يتاجر بالرمز، ولم يجعل الهوية بضاعة انتخابية تُخلع بعد الوصول إلى السلطة. حمل المشروع في قلبه، وتقدّم به في عالم تُحكم فيه الشعوب باسم الحداثة لتُفرّغ من ذاتها.

ولذلك، فإن أردوغان سيبقى – برغم أخطائه وتناقضات واقعه – أحد أبرز من أعادوا للأمة وعيها بأنها ليست يتيمة، وأنها لا تحتاج إلى تأشيرة فكرية من الغرب لتنهض، بل تحتاج فقط إلى من يوقظ الذاكرة، ويستدعي الكبرياء المفقود دون أن يحوّله إلى شعارات.

أحدث أقدم
🏠