بوتان : معيار السعادة على هوى السلطة


في زاوية قصيّة من جبال الهملايا، تُقدَّم بوتان للعالم كنموذج فريد للطمأنينة الوطنية، حيث تُقاس التنمية لا بالناتج المحلي، بل بـ"السعادة القومية الإجمالية". هذه الصورة الحالمة، التي تستلهم روح البوذية ومثالية التأمل، تُروَّج في الإعلام الغربي كأنها الترياق المضاد لجشع الرأسمالية المادية. 

لكن خلف هذه السكينة المصمّمة بعناية، يقبع خطاب سلطوي يعيد تعريف "السعادة" وفق منطق السلطة، لا وفق الواقع المعاش.


حين تُعرّف السلطة السعادة بدلًا من الفرد

السؤال الجوهري في تجربة بوتان ليس: "هل الناس سعداء؟" بل: "من يقرر ما هي السعادة؟".
مؤشر السعادة القومية الإجمالية (GNH) الذي صمّمته الدولة يقوم على تسعة مجالات، معظمها متأثرة بالفلسفة البوذية الرسمية، بدءًا من القيم الروحية وحتى الوقت المخصص للتأمل.
هذا يجعل "السعادة" مفهوماً مؤسساتيًا محكومًا بمعايير أيديولوجية، لا شعورًا حرًا ينبع من تجربة الإنسان الفردية.
ومثلما تُفاخر بوتان بأنها الأولى عالميًا في هذا المؤشر، يغيب عن الخطاب الرسمي أن أحدًا غيرها لا يستخدمه أصلًا.
(فإذا كنت الوحيد في القائمة، فأنت الأول... وأنت الأخير!)
ليست هذه منافسة، بل إعلان أحادي يضع نفسه على المنصة دون جمهور.


بين القناعة والامتثال: البوذية كغطاء سياسي

يُروَّج لمبادئ الزهد والسكينة والتأمل كقيم سامية تعزز الرضا وتُغني عن المطالبة المادية أو الحقوقية.
لكن هذه القيم حين تُفرض من الأعلى وتُحاط بإطار رسمي، تتحول من خيارات روحية إلى آليات تطبيع للواقع القائم.
الصمت يُقدَّم كصفاء، وغياب المعارضة كتناغم، والتجرد من المطالب كتحرر من الأنا.
هنا لا يعود التنوير اختيارًا، بل واجبًا مواطنيًا ضمن سردية الدولة، حيث تُسوَّق الطمأنينة بوصفها التزامًا وطنيًا، لا ثمرةً داخلية.


طرد المختلفين: الوجه الخفي للسعادة القومية

في أواخر الثمانينات، طردت حكومة بوتان عشرات الآلاف من النيباليين المقيمين في الجنوب، لأنهم لا ينسجمون مع الهوية الثقافية الرسمية.
تُقدَّم هذه الخطوة بوصفها دفاعًا عن "الانسجام القومي"، وهو أحد محاور مؤشر GNH، لكن الحقيقة أن السعادة القومية في هذه الحالة تعني إقصاء المختلف وتطهير الفضاء الثقافي من أي تعددية.
فإذا كانت "السعادة" مشروطة بالتجانس الثقافي والديني، فهل هي سعادة فعلًا؟ أم غلافٌ مخمليّ لقومية خفية لا تحتمل التنوع؟


حين يُصاغ القمع بلغة السلام

لا توجد معارضة حقيقية في بوتان.
الصحافة محدودة، وخطاب الدولة متماسك بطريقة تُشبه التصوف المؤسسي أكثر مما تشبه الحوار الديمقراطي.
من ينتقد السلطة يُقدَّم كمن يهدد "وئام المجتمع" أو يزعزع "السعادة العامة".
النتيجة؟ لا احتجاجات، لا مطالبات، لا صوت آخر.
هذه ليست علامات "رضا جمعي"، بل مؤشرات على بيئة أُعيد فيها تعريف السعادة بحيث تعني الطاعة، والصمت، والانسجام مع خطاب الدولة.
القمع هنا لا يصرخ، بل يبتسم.


حين تصبح السعادة سلعة سياسية

النموذج البوتاني يكشف كيف يمكن للسلطة أن تُعيد قولبة المفاهيم الإنسانية، فتصوغ السعادة كمعيار قومي خاضع للضبط، لا كرحلة شخصية نحو المعنى.
وما يبدو مثاليًا في نظر الخارج، قد يكون في الداخل نظامًا دقيقًا لضبط السلوك تحت ستار الصفاء الروحي.
السؤال الأعمق ليس: "هل الناس سعداء؟" بل: "هل يستطيعون أن يختاروا طريقهم إلى السعادة، أم فُرض عليهم أن يكونوا سعداء؟"

أحدث أقدم
🏠