سنغافورة : واحة النموذج المصنوع

ليست كل الواحات حقيقية، وبعض السراب مصقول جدًا ليُقنع الناظرين بأنه نبع الحضارة. وسنغافورة – ذلك النموذج الذي يُمدح ليل نهار – تبدو في ظاهرها كأنها قصة صعود نادرة لمدينة فقيرة تحوّلت إلى قوة اقتصادية عالمية. لكن حين نغوص في السياق، ونكسر القشرة البراقة التي تروّجها المؤسسات الغربية، نكتشف أن سنغافورة ليست سوى نموذج مصنّع بدقة، وظّفته قوى الهيمنة العالمية كأداة سياسية واقتصادية في قلب آسيا. فما حقيقة هذه "الواحة"؟ ومن صاغ ملامحها؟ ولماذا تُسوّق كنموذج للنهضة، بينما روحها غائبة وهوية أهلها مضمورة؟


نموذج بلا موارد.. لكنه لم ينهض وحده

لطالما رُوّجت سنغافورة كدولة "لا تملك شيئًا سوى الإنسان"، وكأنها بنت مجدها بالعرق والانضباط وحده.
لكن الحقيقة أن الغرب – بوجهه الرأسمالي – هو من رعى هذا النموذج ورسم مساره.

فبعد الانسحاب البريطاني، وفي ظل صعود الشيوعية في آسيا، احتاجت القوى الغربية إلى منصة آمنة في خاصرة العالم الشرقي، تعيد توازن النفوذ وتُظهر تفوق النموذج الرأسمالي.
فدُعمت سنغافورة بسخاء سياسي واقتصادي، واحتضنتها الشركات العالمية، وحُوّلت إلى مركز مالي، لوجستي، وخدمي، يخدم مصالح التجارة العالمية لا مصالح أهل الأرض.


ديمقراطية مشروطة، واستقلال خاضع

رغم كل ما يُقال عن انفتاح سنغافورة، إلا أنها تخضع لنظام سلطوي دقيق، يُحكم فيه على الكلمة، وتُقيد فيه المعارضة، وتُصنع فيه "الحرية" كما تُصنع ماركات التصدير.

الحزب الحاكم لم يخسر انتخابات منذ الاستقلال.
والصحافة تخضع لرقابة صارمة.
والنقد السياسي يُعامل كتهديد للأمن الوطني.

إنه نظام لا يحكم بالحديد، بل بما هو أخطر: بالكفاءة المطلقة المفرغة من الروح، حيث يقبل المواطن الصمت مقابل الأمن والنظام والراتب.


الهوية المذابة في مختبر الإنتاج

سنغافورة ليست دولة بالمعنى الحضاري، بل مختبر بشري مبرمج على الإنتاج.
تمت إذابة الفوارق الثقافية بين مكوناتها العرقية (صيني، ملايو، هنود) في قالب "السنغافوري الجيد": الذي يطيع، يعمل، ولا يسأل كثيرًا.

لكن ما الثمن؟
فئة الملايو المسلمين – السكان الأصليين – أُعيد تعريفهم كمجرد أقلية ثقافية لا صوت لها.
والإسلام ممارس تحت رقابة صارمة، وتُحدَّد له حدود "الاعتدال" وفق معايير الدولة لا معايير الوحي.
أما الهوية الجمعية، فهي باهتة، مفرغة من الملامح، تشبه واجهات الأبراج الزجاجية التي تخفي الداخل أكثر مما تعكسه.


المدينة التي لا تنتج أفكارًا

قد تُبهر سنغافورة بقطاراتها، ونظامها التعليمي، ونسبتها المنخفضة من الجريمة.
لكن هل سمعنا يومًا بفيلسوف سنغافوري؟ أو تيار فكري مؤثر نشأ فيها؟
هل خرج منها أدب مقاوم؟ أو فن ينحاز للإنسان؟ أو حتى احتجاج شعبي؟

الجواب: لا.
لأن النظام لا يسمح بذلك.
والمجتمع مبرمج على الأداء لا على التساؤل.
فهي مدينة تُنتج البضائع، لا المعاني.
وتُدار بالأرقام، لا بالرؤى.


وظيفة سنغافورة: مركز خدمة للرأسمالية العالمية

سنغافورة اليوم تشبه "دبي آسيا"، و"هونغ كونغ الغرب"، و"قاعدة بحرية مقنّعة" في قلب الممرات المائية الأكثر استراتيجية في العالم.
هي ليست مشروع أمة، بل وحدة خدمات فائقة الكفاءة أُنشئت لضمان انسياب التجارة، وحماية المصالح الغربية، وضبط إيقاع المنطقة.

إنها ليست نموذجًا قابلًا للاستنساخ، بل حالة مُصمَّمة لمهمة محددة.
وما يُعرض كـ"تفوق حضاري" ما هو إلا واجهة حديثة لنمط من التبعية الذكية.


خاتمة: بين النموذج المصنوع والأمة الحية

قد تُعجبنا سنغافورة، لكن لا يجوز أن نخدع أنفسنا بها.
فما يصلح لمركز مالي صغير، لا يصلح لأمة تريد بناء حضارة.

الحضارة ليست ناطحات سحاب، بل قيم، وإبداع، وهوية حيّة، وقدرة على قول "لا".
وسنغافورة – بكل ما فيها من إنجازات – لم تقل "لا" يومًا، بل قيلت عنها، وصُنعت لها، وسارت كما أُريد لها.

فلنحذر من أن نُفتن بمختبر وُضع في خدمة النظام العالمي، بينما نبحث نحن عن طريق يُعيد الإنسان إلى مركز المعنى.

أحدث أقدم
🏠