السياحة في تركيا: لماذا يضخّم الإعلام العربي المشاكل الأمنية؟

في السنوات الأخيرة، أصبحت أخبار الاعتداءات على العرب في تركيا أو مشكلات السياح فيها مادّة إعلامية دسمة، تُعاد وتُكرّر بوتيرة لافتة. ورغم أن كل بلد يعاني من حوادث فردية وسلوكيات شاذة، إلا أن تركيز الإعلام العربي على تركيا تحديدًا يطرح سؤالًا مشروعًا: ما المغزى؟ ولماذا تُضخّم هذه الحوادث بهذا الشكل؟
ما يبدو ظاهريًا كـ "تحذير أمني" ليس دومًا كذلك، بل يُخفي وراءه رسائل أعمق ذات طابع سياسي وإيديولوجي.


1. تشويه النموذج لا الحادثة

الحادث الفردي قد يقع في أي دولة سياحية. ولكن حين يُوظف بشكل مكثّف لتشويه صورة "الدولة" أو "الشعب"، نكون أمام خطاب إعلامي موجّه. ففي حالة تركيا، يتجاوز التناول الإعلامي مجرد التحذير من واقعة إلى شيطنة شعبٍ بأكمله، ونظامٍ سياسيٍّ برمّته.

الرسالة ليست: "انتبه، قد تواجه موقفًا صعبًا"، بل: "تركيا بلد عدائي للعرب، فلا تذهب إليها".

وهنا تنقلب المعادلة من إعلام يُنذر المواطن إلى إعلام يُروّضه.


2. تركيا: النموذج المرفوض لدى الأنظمة السلطوية

تركيا ليست مجرد وجهة سياحية، بل تمثل نموذجًا سياسيًا متمايزًا في الوعي العربي:

  • دولة ذات خلفية إسلامية في الحكم
  • تشهد انتخابات دورية ونسبًا معتبرة من الحريات
  • تقدم خدمات عامة متطورة واقتصادًا متنوعًا
  • وتبقى في الآن ذاته قريبة من وجدان الشعوب العربية

وهذا يجعل منها نموذجًا مقلقًا للأنظمة العربية السلطوية، التي تخشى أن يقارن المواطن بين ما يعيش فيه وما يمكن أن يكون. ومن هنا، فإن ضرب صورة تركيا في الوعي العام يُخدم كبحًا لهذا التهديد الرمزي.


3. الوعي السياحي خطر بحد ذاته

حين يسافر المواطن العربي إلى تركيا، لا يرى فقط الطبيعة والآثار، بل يلاحظ:

  • كيف تعمل البلديات
  • كيف تُدار المرافق
  • كيف تُنظَّم الحياة اليومية
  • كيف يشعر الإنسان هناك أنه محترم

وهذه المقارنة البسيطة قد تُنتج وعيًا ناقدًا لنموذج الحكم المحلي. فتصبح السياحة بوابة إلى الوعي، وهذا ما تخشاه السلطات. ولذلك يُعاد تأطير تركيا في الإعلام على أنها "غير آمنة"، "معادية للعرب"، "مليئة بالعنصرية"، حتى تصبح الرحلة إليها مغامرة محفوفة بالمخاطر بدل أن تكون استجمامًا.


4. الحوادث الانتقائية والمفارقة الصارخة

المفارقة أن الدول التي تشهد أعلى معدلات اعتداءات على العرب أو العنصرية ضدهم، سواء في الغرب أو في بعض الدول العربية نفسها، لا تحظى بنفس التغطية التحذيرية المكثفة. لا تُخصّص لها الحملات ولا تُضَخّم وقائعها.

وهنا يتضح أن المشكلة ليست في سلوك فردي، بل في خطاب ممنهج يستهدف نموذجًا بعينه: تركيا.


5. حرب الإعلام الباردة

تركيا نفسها تدرك هذه الحرب الباردة. فقد سبق لمسؤولين أتراك أن تحدثوا عن "حملات إعلامية مغرضة" ضدهم، خاصة من وسائل إعلام تابعة لمحاور إقليمية خصمة.

وفي هذا السياق، فإن توظيف الإعلام كأداة ردع عن السفر لتركيا ليس سوى امتداد لصراع النفوذ في المنطقة. صراع لا يُخاض بالسلاح فقط، بل أيضًا بصناعة الصورة في أذهان الجماهير.


خاتمة: حين يتحول الإعلام إلى أداة تشويه لا تنوير

ما نراه اليوم في الإعلام العربي من تركيز على مشكلات السياحة في تركيا لا يُفهم إلا ضمن لعبة أكبر: لعبة تشكيل الوعي العام. وهي لعبة تُستخدم فيها الحقائق الجزئية لطمس الصورة الكلية. فيُخفى النموذج ويُضخّم العارض، ويُقدَّم السلوك الفردي على أنه سياسة دولة.

وهكذا، يتحول الإعلام من مرآة تنقل الواقع، إلى مطرقة تُعيد تشكيله وفقًا لمصالح السلطة.

أحدث أقدم
🏠