
مراسلات مكماهون – حسين: الوعود المسمومة
بدأت القصة مع المراسلات بين الشريف حسين وهنري مكماهون، المفوض البريطاني في مصر، والتي أعطت انطباعًا زائفًا بأن بريطانيا تعترف بوحدة الأراضي العربية وبحق العرب في تأسيس دولتهم بعد سقوط العثمانيين. استخدم البريطانيون لغة فضفاضة، مليئة بالالتباسات والتعميمات، تتيح لهم التراجع لاحقًا عن أي التزام. لم يذكروا القدس تحديدًا، وتجنّبوا رسم حدود واضحة للدولة الموعودة. كانت الرسائل أشبه بعقد بلا بنود.
الثورة العربية: نارٌ أشعلها العرب وأطفأها الاستعمار
لبّى الشريف حسين النداء وأطلق ما عُرف بـ"الثورة العربية الكبرى" سنة 1916، بدعم مباشر من البريطانيين، وبقيادة ابنه فيصل الذي زحف شمالًا نحو دمشق. بدا للحظة أن العرب على أعتاب استقلالهم، وأن الراية الهاشمية ستُرفرف فوق عاصمة الأمويين، لكن الحقيقة كانت أكثر قسوة: الإنجليز قطعوا وعودًا متناقضة لعدة أطراف، بينها الحركة الصهيونية (في وعد بلفور)، والفرنسيين (في اتفاقية سايكس – بيكو).
فيصل في الشام... والفرنسيون في انتظاره
دخل الأمير فيصل دمشق بتفاؤل وثقة أنه ملك العرب، مدعومًا من والده الشريف حسين. أُعلن عن "المملكة العربية السورية"، لكن البريطانيين سرعان ما تخلّوا عنه. سمحوا للفرنسيين بغزو سوريا سنة 1920، في انتهاك صريح لمراسلاتهم مع الشريف حسين. سقط حلم الدولة الكبرى، وانكشفت الخديعة.
الشريف حسين يُنَصَّب ملكًا... ولكن على ماذا؟
رغم ما حدث في الشام، تم تنصيب الشريف حسين ملكًا على الحجاز. بدا الأمر كترضية، أو بالأحرى كتعويض رمزي عن حلم عربي ضائع. لكن الإنجليز كانوا قد قرروا مصير المنطقة مسبقًا. لم تكن مملكة الحجاز إلا مرحلة مؤقتة، انتهت حين دعم البريطانيون لاحقًا صعود عبدالعزيز آل سعود، الذي أطاح بالشريف حسين، وتم توحيد المملكة تحت راية آل سعود سنة 1932.
الخديعة الكبرى: هل كان الشريف حسين ساذجًا؟
السؤال الذي يطرحه التاريخ اليوم ليس عن نوايا الشريف حسين، بل عن قدرته على قراءة اللعبة الاستعمارية. هل كان يؤمن فعلًا بوعود بريطانيا؟ أم أنه غضّ الطرف عنها مدفوعًا بطموح شخصي في المُلك؟
الواقع أن الحلم العربي تحوّل إلى ورقة تفاوضية بين قوى الاحتلال. لم يكن للعرب دورٌ حقيقي في رسم خريطة ما بعد الحرب. بل كانت كل التحركات تخضع لمصالح الإمبراطوريات الصاعدة، التي أرادت تقسيم الإرث العثماني لا منحه للعرب.
أثر الخديعة مستمر إلى اليوم
لم تكن خديعة الشريف حسين حدثًا عابرًا في تاريخنا، بل كانت لحظة مؤسسة لمآسٍ لا تزال تلقي بظلالها على حاضرنا. فقد انقسمت الأرض العربية إلى كيانات مفككة، حُكمت بحدود مصطنعة ونُظُم أُسست برعاية استعمارية، فجعلت من الانتماء العربي حلمًا مستحيلًا داخل خرائط متناحرة. وما زلنا اليوم ندفع ثمن تلك الصفقة المسمومة، حين استُبدل مشروع النهضة بمشروع التبعية، وحين جُزّئت الهُوية إلى هويات محلية، وصار كل شعب يطالب بحقه كأنما في غربة عن الآخر.
لقد فشلنا في تجاوز لحظة الخداع تلك، لأننا لم نعترف بها بعدُ كخيانة تاريخية. ولا يُمكن لشعب أن يتحرر من تبعيته، ما لم يُعِد قراءة لحظات التأسيس التي صاغت واقعه على مقاس غيره، لا على مقاس ذاته.