
ليس الأمر اقتصاديًا بحتًا، بل سياسي في جوهره: إذ استُخدم الفقر أداة لإخضاع الناس، وتقييد حريتهم، وكبح وعيهم. من التهميش المتعمد لمناطق معينة، إلى إفقار المدن الكبرى عبر الفساد والتبعية، نرصد في هذا المقال كيف أصبح الفقر سياسة لا مجرد نتيجة.
الفقر لا يسقط من السماء
على عكس الصورة الشائعة التي تُرجع فقر اليمن إلى الحروب أو الجفاف أو "الحظ العاثر"، فإن نظرة فاحصة تكشف أن التفقير كان عملية مُمنهجة. فالسلطات المتعاقبة، منذ ما قبل الوحدة وبعدها، اعتمدت على إبقاء الشعب في حالة عوز دائم، تجعل من لقمة العيش أولوية تُلهيه عن أي تفكير نقدي أو مطالبة بحقوق.
ويكفي أن نعلم أن مناطق زراعية خصبة مثل تهامة أُهملت بالكامل، وأن الثروات البحرية والنفطية والغازية لم تُوظّف لتنمية المجتمع، بل ضُخّت في جيوب الطبقات الحاكمة أو أُهدرت في صفقات ولاء سياسي إقليمي.
من التهميش إلى الحرب: تصعيد أدوات التفقير
شهدت مناطق معينة في اليمن تهميشًا اقتصاديًا وثقافيًا واضحًا لعقود، تمثل في تغييب البنى التحتية، وإقصاء الكفاءات، وغياب الاستثمار. لكن ما بدأ بالتهميش، تطوّر لاحقًا إلى تدمير كامل خلال الحرب، بحيث تحوّلت مدن بأكملها إلى خرائب.
واللافت أن بعض المشاريع التنموية التي وُعدت بها مناطق معينة لم تكن سوى واجهات إعلامية، تُستخدم للترويج الخارجي بأن الدولة تقوم بواجبها، بينما الواقع كان يزداد سوءًا.
الفقر كأداة للضبط الاجتماعي
حين يعاني الإنسان من الجوع، يُصبح من السهل السيطرة عليه. هذا هو جوهر سياسة التفقير: تحويل المواطن من كائن فاعل إلى مفعول به. وقد استُخدم الدعم المشروط، والإغاثات الدولية، وحتى الوظائف الحكومية، كوسائل ضغط تُمنح أو تُحجب حسب الولاء.
وهكذا أصبح الفقر ليس فقط نتيجة للفساد أو الحرب، بل وسيلة لـ"إعادة تشكيل" المجتمع على صورة السلطة، عبر تجويع الناس وسحب كل أدوات الاستقلال الذاتي عنهم.
نهب الثروات: الجزر تُباع والبترول يُهرَّب
بينما يعيش اليمنيون واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، تتعرض جزرهم وثرواتهم الطبيعية للنهب المنظّم. جزيرة سقطرى، ذات الموقع الجغرافي الاستراتيجي والتنوع البيئي الفريد، لم تعد مجرد جزيرة يمنية، بل أصبحت قاعدة نفوذ إقليمي ومركزًا عسكريًا تتحكم فيه أطراف أجنبية بحجج "الدعم" و"الاستقرار".
في الوقت نفسه، يجري نهب النفط اليمني وبيعه خارج الأطر الرسمية، عبر موانئ وممرات لا تخضع للدولة، بل لقوى الأمر الواقع أو لمليشيات مدعومة خارجيًا. ولا تدخل عائداته خزينة الشعب، بل تُستخدم لتثبيت الانقسام، وشراء الولاءات، وتمويل التبعية.
هكذا، يُمنَع اليمن من الاستفادة من ثرواته، ويُترك يعتمد على المعونات، ويتحوّل شعبه من مالك أرض وثروة إلى متسوّل أمام العالم، فيما تُدار موارده كغنائم حرب على حساب مستقبل وطن بكامله.
الموانئ المغلقة: حين يُخنق الاقتصاد لصالح الغير
اليمن بلد بحري بامتياز، يمتد على ساحل طويل يشرف على أحد أهم الممرات البحرية في العالم. ومع ذلك، فإن موانئه الكبرى – من عدن إلى الحديدة إلى المخا – تعيش شللًا اقتصاديًا مريبًا. ففي حين تحتاج البلاد إلى تشغيل موانئها لتأمين الغذاء والدواء وفرص العمل، تُمنَع الموانئ من العمل بطاقتها الكاملة، ويُفرض عليها الحصار أو السيطرة الجزئية.
المستفيد من هذا التعطيل؟ موانئ بديلة في دول الجوار أصبحت تستحوذ على حركة الشحن التي كانت تمر عبر اليمن، بل وتُدار السياسات اللوجستية بحيث يُفرَض على التجار استخدام تلك الموانئ الأجنبية بأسعار أعلى وشروط مجحفة.
بهذا، يتحوّل التعطيل من مجرد أثر جانبي للحرب إلى أداة هندسة اقتصادية مقصودة، تُبقي اليمن رهينة العجز، وتُخرج موانئه من معادلة المنافسة، وتمنح دولًا أخرى مكاسب استراتيجية على حساب وطن منكوب.
من البن إلى القات: اقتصاد تغييب العقول
من المفارقات الصارخة في اليمن أن البلد الذي عُرف تاريخيًا بزراعة أجود أنواع البن في العالم، أصبح اليوم غارقًا في زراعة نبتة القات التي تُستنزف فيها المياه والأراضي والعقول.
لقد تم تهميش زراعة البن – التي كانت تمثل أحد أعمدة الاقتصاد اليمني التقليدي – بشكل منهجي، بفعل إهمال رسمي، وغياب الدعم، وترك المزارعين فريسة للمنافسة الخارجية دون حماية، في حين جرى تشجيع زراعة القات ضمنيًا، رغم آثارها الكارثية على الصحة والاقتصاد والإنتاجية المجتمعية.
وما كان لهذا التحوّل أن يتم دون رعاية سياسية، لأن القات ليس مجرد نبات، بل أداة لتخدير المجتمع، وإشغاله، وإفقاده الحيوية النقدية. وهكذا، تحوّلت الأرض اليمنية من مصدر للثراء والعالمية، إلى مرتعٍ لمخدر يومي يستنزف ماءها وناسها.
أين الإعلام من كل هذا؟
لعب الإعلام دورًا خطيرًا في تغطية مظاهر التفقير لا أسبابه. حيث يكثر الحديث عن المجاعة، دون الحديث عن من تسبّب فيها. ويُقدَّم اليمني كضحية، دون الإشارة إلى الجناة. وهكذا يُعاد إنتاج الصورة النمطية للإنسان العربي الضعيف المعدم، بلا مساءلة حقيقية للمنظومات السياسية أو الدولية المتواطئة.
الفقر في اليمن: من المسؤول؟
لا يمكن تبرئة أحد: من النظام السابق الذي استنزف الدولة، إلى القوى الإقليمية التي توظف الحرب لصالح مشاريعها، إلى المؤسسات الدولية التي تدير معونات بلا أثر. الجميع مشترك في جريمة التفقير، ولكن الثمن يدفعه المواطن اليمني وحده.