
عندما تُنهب الدولة بالأرقام
لبنان من الدول القليلة التي تم فيها توثيق نهب الدولة عبر البنوك علنًا. اختفت ودائع الناس من المصارف، وذابت الليرة، وتبخّر الدعم، كل ذلك تحت غطاء "إصلاح اقتصادي" و"ظروف قاهرة". بينما الحقيقة أن النخبة المالية - السياسية تقاسمت ما يعادل مستقبل جيل كامل.
والأدهى أن هذا الانهيار تمّ تغليفه بخطاب تقني: حديث عن أسعار صرف، وسعر منصة صيرفة، وخطة تعافٍ، بينما الجريمة الحقيقية هي تحويل الدولة إلى صراف آلي لطبقة أوليغارشية تملك الإعلام، والبنوك، والقرار السياسي.
الطائفية: شبكة الضمان للفقر
من أبرز أدوات التفقير في لبنان: الطائفية السياسية، التي حوّلت الدولة إلى شركة محاصصة. المواطن لا يحصل على حقه كمواطن، بل كـ"تابع طائفي"، ما يجعل الولاء للطائفة شرطًا للبقاء. الوظائف، والتعليم، وحتى المعونة مرتبطة بالزعيم لا بالدولة.
وهكذا، تصبح الطائفة هي المزوّد الوحيد للأمان والخبز، وتُبنى حالة من الولاء القهري الذي يُرسي سلطة الزعامات ويُكرّس الاستسلام للفقر كـ"قدر مقدّس".
الفقر في بيروت ليس كأي فقر
الفقر في لبنان فريد في تمويهه: ترى مطاعم فخمة، وسيارات فارهة، وحفلات، لكنها محصورة في دوائر ضيقة. أما أغلب اللبنانيين، فقد انزلقوا نحو فقر مركّب: صحي، غذائي، تعليمي. الفجوة الطبقية هنا تُخفي حقيقة أن لبنان بلد مُنهار بواجهة سياحية خادعة.
هذا التناقض يجعل من الفقر في لبنان سلاحًا مضاعف التأثير: لأنه غير مرئي بوضوح، ويستمر تحت وهم الحداثة، مما يُضعف حتى ردّات الفعل الجماهيرية تجاهه.
الليرة تذوب... والدولار لا يرحم
في قلب المشهد اللبناني، انهارت الليرة اللبنانية أمام الدولار حتى فقدت أكثر من 95% من قيمتها خلال سنوات قليلة، مما أدى إلى محو الأجور والمدّخرات، وتحويل اللبنانيين إلى متسوّلين داخل وطنهم. ورغم أن الدولة لم تعلن رسميًا "الدولرة"، إلا أن الواقع فرض نفسه: المدارس، المستشفيات، السلع، الخدمات... كل شيء يُسعَّر بالدولار، بينما أغلب الناس ما زالوا يتقاضون رواتبهم بالليرة.
لقد بلغ الغلاء حدًّا عبثيًا: راتب موظف حكومي شهري بالكاد يكفي لتغطية وجبة عشاء واحدة فاخرة في مطعم وسط بيروت، بينما كانت الطبقة الوسطى في الماضي تملأ المقاهي، وتسافر، وتستثمر في التعليم. ما نعيشه اليوم ليس غلاءً فقط، بل تفككًا اجتماعيًا شاملًا سببه الأساس هو خيار سياسي واقتصادي بتفريغ العملة الوطنية وتقييد الناس في حلقة عجز دائم.
وهكذا، يتحوّل الفقر في لبنان من حالة إلى هوية مفروضة، تفرض على المواطن أن يعيش في وطنه كغريب، بلا قدرة على الشراء، بلا أمل في الترميم، وبلا أفق للخلاص.
تغييب العقول: حين تُصبح المخدّرات حلاً للهروب
في بلدٍ يرزح تحت الضغط النفسي والاقتصادي والمعنوي، تحوّلت المخدّرات من ظاهرة هامشية إلى وسيلة بقاء مزيفة. ارتفاع تعاطي الحبوب والمهدئات والمنشطات بين الشباب وحتى بين الطلبة والعاملين، يكشف أن المجتمع اللبناني ينهار بصمت من الداخل.
المفارقة أن تجارة المخدرات لا تجري في الظل فحسب، بل تُدار أحيانًا بحماية زعامات وميليشيات، وتُستخدم كأداة للسيطرة، أو التمويل، أو حتى التوظيف السياسي. هنا لا يصبح الغائب فقط هو الوعي، بل تصبح المخدرات هي النظام نفسه: تؤمّن مؤقتًا نسيانًا جماعيًا يُريح السلطة من أسئلة المساءلة.
هجرة العقول: وطن يطرد أفضل من فيه
من أخطر آثار التفقير في لبنان أنه لا يُطرد الفقراء فحسب، بل يدفع النخب وأصحاب الكفاءات إلى الهجرة. الأطباء، الأساتذة الجامعيون، المهندسون، الفنّانون… آلاف يغادرون سنويًا، لأنهم لم يعودوا يجدون وطنًا يحترم عقولهم أو يضمن بقاءهم بكرامة.
النتيجة؟ وطن بلا طبقة وسطى، بلا بحث علمي، بلا تعليم فعلي. فحين تُصبح كلفة العلم عبئًا، وتُعامل النخبة كفائض عن الحاجة، تتحول الهجرة إلى قرار بقاء، لا خيار رفاهية. وهكذا، يستكمل التفقير دوره: لا يكتفي بإفقار الجيوب، بل يُفرغ البلاد من العقول المقاومة.
أين اختفى الإعلام؟
الإعلام اللبناني، رغم حريته الشكلية، مملوك لغالبية القوى السياسية. ولذلك يُستخدم لتوجيه الغضب، لا لكشف الأسباب. فتُحمَّل الأزمة على اللاجئين حينًا، أو على الخارج، أو على الشعب نفسه، بينما يُمنع أي تحقيق جدّي في منظومة النهب المالي والسياسي.
وهكذا، يصبح الإعلام نفسه أداة من أدوات التفقير: يُلهي الناس، ويشوّش على الحقائق، ويُعيد إنتاج الخطاب الطائفي، بدلاً من تفكيكه.
التفقير كمنهج وليس كأزمة
حين تصبح الدولة غير قادرة على تقديم التعليم المجاني أو دعم الطبابة أو حماية العملة، وتبقى النخبة تحقّق أرباحًا من هندسات مصرفية مشبوهة، فاعلم أن الفقر ليس نتيجة خلل، بل نتيجة قرار.
لبنان ليس دولة فقيرة من حيث الموارد البشرية أو الإمكانيات، بل دولة فُقِّرت عمدًا لتحافظ النخبة على سلطتها وسطوة طوائفها، في ظل صمت دولي وتواطؤ إقليمي، وتنويم شعبي إعلامي طويل.