
فيصل في دمشق: ملكٌ ليوم واحد
كان فيصل بن الحسين أبرز وجوه المشروع العربي، وقائد الثورة الميداني. دخل دمشق عام 1918 تحت راية الاستقلال، وأُعلن ملكًا على "المملكة العربية السورية"، لكن الإنجليز كانوا قد عقدوا صفقتهم مع الفرنسيين سرًا.
في يوليو 1920، هُزم جيش المملكة الوليدة في معركة ميسلون أمام القوات الفرنسية، وسُحقت أحلام النهضة بضربة استعمارية مزدوجة: غدر الحلفاء وخذلان الواقع. لم يمكث فيصل على عرش الشام أكثر من عامين، فخرج منها كما دخلها... محاطًا بالخيبة.
من دمشق إلى بغداد: تدوير العروش بتوقيع بريطاني
لم يتخلَّ البريطانيون عن فيصل تمامًا، بل أعادوا استخدامه في رقعة شطرنج أخرى. في العراق، حيث كانت بريطانيا تواجه مقاومة متصاعدة، قرروا أن يمنحوا فيصل عرشًا جديدًا عام 1921، ولكن بشروط: دولة تُدار من فوق، وصلاحيات ملك مقيدة، وسلطة بريطانيا محفوظة.
وهكذا انتقل فيصل من ملك الحلم العربي إلى ملك دولة وظيفية، تمثل مشروعًا بديلاً لا يهدد النفوذ البريطاني، بل يموّه وجوده.
عبد الله في شرق الأردن: مملكة بلا ماضٍ
أما عبد الله بن الحسين، شقيق فيصل، فقد قُطع له إقليم شرق الأردن ليُنشئ فيه "إمارة شرق الأردن"، التي تحوّلت لاحقًا إلى المملكة الأردنية الهاشمية. كانت هذه الإمارة مجرد منطقة عازلة لتأمين المصالح البريطانية في طريقها إلى فلسطين، وإسكات الأمير الذي لم يجد له موضعًا في دمشق.
من مملكة مُنتظرة إلى "كيان طوارئ"، شكّلت الأردن نموذجًا لتدوير الهاشميين في دور محدود السيادة، مرتهن للدعم البريطاني، بعيدًا عن الحلم الأول الذي رفعه الشريف حسين.
من وحدة العرب إلى ميراث العروش
في أقل من عقد، تحوّل مشروع الوحدة العربية إلى توزيع وراثي للعروش، وبدل أن يُولد كيان عربي واحد يضم العرب من الخليج إلى المحيط، وُزِّع الهاشميون كملوك على دول وظيفية مفصلة بمقاس الاستعمار.
ولم يكن هذا التقسيم صدفة، بل كان جزءًا من سياسة استعمارية ذكية: أن تمنح أبناء الثورة كراسي محدودة مقابل إسكات خطاب الوحدة، وأن تستبدل الفكرة الكبرى بالمكافآت الصغيرة.
أثر الانقسام على الوعي العربي
الانقسام الذي أصاب الهاشميين لم يكن عائليًا فقط، بل انعكس على الوعي العربي كله. فبدل أن يكون الملك تجسيدًا للسيادة، صار رمزًا للصفقة. وبدل أن تُستكمل الثورة، تحوّلت إلى مَلَكيات ترعى الاستقرار الاستعماري.
وهكذا انفصلت القيادة عن القضية، وورثنا دولًا تحمل أسماءً عربية، لكن بوصلة تأسيسها انطلقت من مكاتب لندن وباريس لا من ساحات الاستقلال.
خلاصة: الخريطة التي رسموها... والعروش التي تشرذمت
لقد تحوّل الهاشميون من حملة لواء الأمة إلى ورثة دويلات قُدّمت لهم تعويضًا عن خديعة القرن. لم تكن الممالك الهاشمية إلا أثرًا جانبيًا لانهيار الحلم العربي، ومشهدًا رمزيًا لفشل من ظنّ أن الاستقلال يُشترى من المستعمر.
وبين دمشق وبغداد وعمّان، تفرّقت دماء الثورة على خارطة لا تزال حتى اليوم تُدار بروح الصفقة، لا بروح الوحدة.