
الدولة الوظيفية: من يمثل من؟
منذ أن قُسِّمت المنطقة العربية إلى كيانات صغيرة تُدار بعروش موروثة أو جمهوريات مُفرغة، نشأ شكل جديد من الحكم لا يعبّر عن الأمة، بل يُمثّل مصالح القوى التي أنشأته.
فهذه الدول وُلدت تحت وصاية، ونشأت في ظل اتفاقيات تُقيّد قرارها، وتُحدد مساراتها، وتمنحها هامش حركة لا يتجاوز سقف الراعي الدولي.
في هذا النموذج، لا تكون الدولة أداة لتحقيق إرادة الشعب، بل أداة لتحقيق توازن القوى. والأنظمة ليست امتدادًا لمطالب التحرر، بل حُرّاسًا لحدود رُسمت بمسطرة الاستعمار، وتحوّلت لاحقًا إلى محميات سياسية.
القشرة السيادية: وزارات تُدار بقرارات أجنبية
كل شيء يوحي بالسيادة: علم، نشيد، برلمان، سفارات... لكن خلف هذه القشرة، تتحرك الخيوط في مكان آخر.
من البنك المركزي إلى الجيش، ومن الإعلام إلى التعليم، تدار كثير من مفاصل الدولة بمنطق "المشورة الأجنبية"، سواء عبر المستشارين المباشرين، أو عبر الإملاءات غير المُعلنة، أو عبر المعونات المشروطة التي تخنق القرار الوطني تحت لافتة الدعم.
الدول كأدوات ضبط إقليمي
لا يقتصر الأمر على التبعية التقنية أو الاقتصادية، بل يتعداه إلى التوظيف الجيوسياسي. فالدولة العربية الحديثة – في كثير من حالاتها – لم تُبنَ لتخدم شعوبها، بل لتلعب دورًا وظيفيًا في خدمة منظومة توازنات إقليمية ودولية.
فهناك دول حُصرت مهمتها في كبح التمدد الشعبي، وأخرى خُصصت لدور الوسيط، وثالثة خُلقت لتكون حاجزًا جغرافيًا، ورابعة كُرّست لبث خطاب تبريري يُشرعن الانقسام ويحرس الاصطفاف.
من حلم الدولة إلى كابوس الشكلانية
تحوّلت الدولة في العالم العربي إلى شكل بلا مضمون. فهي تحضر في البروتوكول وتغيب في الفعل.
ولأن السيادة لا تُقاس بالشعارات بل بقدرة الدولة على اتخاذ قراراتها دون وصاية، فإن أغلب هذه الدول ليست سوى كيانات شكلية تُدار بروح خارجية، أو في أحسن الأحوال، تتحرك داخل مساحة مسموح بها.
وما بدأ كخديعة ضد الشريف حسين تحوّل إلى نموذج متكرر في كل محاولة تأسيس: الدولة تُبنى بشرط أن لا تهدد التوازن، والملك أو الرئيس يُختار بشرط أن لا يُحرّك فكرة التحرر خارج النصّ المسموح.
الخاتمة: حين تكون الدولة جزءًا من المشكلة
ما نعيشه اليوم من أزمات سياسية واقتصادية وثقافية، ليس مجرد عثرات في الإدارة، بل نتيجة حتمية لنموذج الدولة القشرة.
فلا يمكن لشعب أن يُبدع داخل دولة خُلقت لإخضاعه، ولا يمكن لثقافة أن تنمو في ظل أنظمة وظيفتها منع الأسئلة لا فتح الأفق.
الدولة القشرة ليست فقط عاجزة عن قيادة النهضة، بل هي – في كثير من الأحيان – الجدار الذي يفصل بين الأمة ومشروعها.
وهكذا نكتشف أن خديعة مكماهون لم تكن نهاية لحلم الشريف حسين فحسب، بل بداية لنموذج متقن من الوصاية المزمنة، تُدار بواجهات وطنية، لكن روحها تَخدم مشروعًا آخر لا نمتلك قراره.