
وعده الغرب بالقسطنطينية، وأغراه بخطاب لاهوتي يعزف على وتر العقيدة الأرثوذكسية، فاندفع خلف السراب متخيّلًا أنه قاب قوسين من دخول آيا صوفيا محرّرًا باسم المسيح. لكن الغرب لم يكن ليشارك الغنيمة مع أحد، بل أراد روسيا وقودًا للمعركة، لا شريكًا في نهايتها.
هكذا خُدع القيصر، وسقط الحلم الروسي في القسطنطينية، كما سقطت الخلافة، وبقي الغرب وحده على مائدة التركة، يرسم خرائط جديدة للشرق الإسلامي، ويقصي كل من لا يخضع لشروطه.
الطموح الأرثوذكسي نحو القسطنطينية: حلم ديني قبل أن يكون سياسيًا
لم تكن علاقة روسيا بالقسطنطينية مجرد طمع إمبراطوري، بل كانت علاقة مشبعة بالرمزية اللاهوتية العميقة. فمنذ سقوط القسطنطينية عام 1453 على يد محمد الفاتح، رأت الكنيسة الروسية نفسها وريثة شرعية للعالم الأرثوذكسي، وراحت تبني خطابًا لاهوتيًا يعتبر موسكو "روما الثالثة" بعد سقوط روما الأولى وبيزنطة.
أرادت روسيا أن تعيد "الحق المقدس" إلى نصابه، وتحرّر المدينة التي كانت، في نظرهم، مغتصبة من المسلمين. لهذا كان القيصر نيقولا الثاني لا يرى الحرب ضد الدولة العثمانية مجرد تحالف استراتيجي، بل مهمة عقدية. وقد استغل البريطانيون هذا التوجّه، فعرضوا عليه القسطنطينية كمكافأة، في حال انتصر الحلفاء.
خديعة البريطانيين: وعدوا روسيا بالقسطنطينية... ثم استغنوا عنها
دخلت روسيا الحرب العالمية الأولى إلى جانب بريطانيا وفرنسا، وكان الأمل أن تنهار الدولة العثمانية فتُقسم أراضيها بين المنتصرين. وفي اتفاق سري عُرف لاحقًا باسم "الاتفاق الروسي البريطاني الفرنسي" سنة 1915، وافق الحلفاء على منح روسيا القسطنطينية والمضائق البحرية، مقابل استمرارها في الحرب.
لكن ما لم يدركه نيقولا، أن الغرب كان يعدّه شريكًا مؤقتًا، لا دائمًا. ومع تصاعد الثورة البلشفية داخليًا، خرجت روسيا من الحرب عام 1917، فسارع الحلفاء إلى إلغاء وعودهم السابقة، وانفردوا برسم خرائط ما بعد الحرب.
لم تأخذ روسيا شيئًا. لا القسطنطينية، ولا موضع قدم في الشرق الأوسط. بل كانت أول الخاسرين. والقيصر الذي حلم بآيا صوفيا، انتهى مقتولًا برصاص الشيوعيين، وانهارت القيصرية، وضاعت الكنيسة، وذهبت كل أحلام الأرثوذكسية في البحر.
انفرد الغرب بالمسرح: سايكس بيكو، بلفور، وأخطر غنيمة في القرن
بعد انسحاب روسيا، تغيّر كل شيء:
- تم تنفيذ اتفاقية سايكس-بيكو دون الحاجة لموافقة الروس، وقُسم المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا.
- صدر وعد بلفور لليهود، معلنًا أن بريطانيا تعد بمنح فلسطين كيانًا لا تملكه، لأناس لا يعيشون فيها.
- تم اختراع كيانات جديدة، وترسيم حدود اصطناعية، ومنح الزعامات لمن يخضع، لا لمن يُمثّل.
- أما القسطنطينية، فقد تُركت لتسقط في يد القوميين الأتراك، الذين حوّلوها لاحقًا إلى رمز للعلمانية الحديثة.
لم يحصل الروس على شيء. خرجوا من الحرب بلا نصر، وبلا جغرافيا، وبلا مكان في الشرق الجديد.
الخسارة الروسية: رمزية مركّبة ومأساة مزدوجة
كانت الخديعة مؤلمة ليس فقط لأنها خسارة استراتيجية، بل لأنها:
- كسرت الطموح الروسي التاريخي في أن يكونوا ورثة بيزنطة.
- أقصت الكنيسة الروسية من الحلم المقدس في استعادة القسطنطينية.
- جعلت روسيا تعيش حالة من "عقدة الطرد" من الشرق الإسلامي، وهو ما تكرّر لاحقًا في صراعاتها لاستعادة النفوذ في سوريا والشرق الأوسط عمومًا.
خديعة تتكرّر: النموذج الروسي يتكرّر مع العرب
المفارقة أن العرب نفسهم خُدعوا لاحقًا بنفس الطريقة:
- وعدهم البريطانيون بدعم "الثورة العربية الكبرى" مقابل الاستقلال، ثم خذلوهم في سايكس-بيكو.
- صدّق الشريف حسين أنه سيحكم الخلافة، فوجد نفسه في جزيرة معزولًا.
- وقّعت بريطانيا على وعد بلفور في الوقت الذي كانت تراسل فيه الشريف حسين بوعد مقابل!
الخديعة لم تكن حكرًا على نيقولا، بل كانت أسلوبًا متقنًا من الغرب لشراء دماء الشعوب بوعود زائفة، ثم إقصائهم بعد انتهاء الدور المطلوب.
الإرث الجيوسياسي: هل ما زالت روسيا تحلم بالقسطنطينية؟
اليوم، تعود روسيا إلى الشرق الأوسط عبر البوابة السورية، وتحاول استعادة دورها التاريخي، ليس فقط كقوة دولية، بل كقوة لها امتداد روحي وتاريخي في الجغرافيا التي طُردت منها.
- تدخلها في سوريا ليس فقط دعمًا للأسد، بل رغبة في استعادة هوية كنسية قديمة تعود لأيام بيزنطة.
- نفوذها في البحر الأسود والبحر المتوسط يعكس شعورًا دفينًا بالخذلان من الماضي.
- خطابها المعادي للهيمنة الغربية يُستحضر فيه بوضوح إرث الخديعة الكبرى.
بين القيصر والخلافة: من الذي خُدع أكثر؟
القيصر نيقولا خُدع لأنه صدّق أن الغرب سيشاركه مركز بيزنطة، والعرب خُدعوا لأنهم ظنوا أن الاستقلال سيُمنح بعد الخلافة.
والنتيجة في الحالتين:
- ضاعت الخلافة.
- نُفي القيصر، وذُبح مع أسرته.
- أُعلنت الجمهورية التركية على أنقاض السلطنة.
- وأصبح الشرق الإسلامي تحت قبضة حدود وظيفية رسمها الغربيون وحدهم.
أثر الخديعة في جغرافيا الصراع اليوم
ما زالت خيوط تلك الخديعة القديمة تنسج واقعنا الجيوسياسي حتى اليوم. فإقصاء روسيا من الشرق بعد الحرب العالمية الأولى لم يُغلق الملف، بل فتح جراحًا جيوسياسية عميقة ما زالت تنزف:
- الهيمنة الغربية على مفاتيح الجغرافيا الإسلامية بقيت مستمرة، من المضائق التركية إلى الهلال الخصيب، بفعل الخرائط التي رُسمت حين غُيّبت روسيا والعالم الإسلامي معًا عن طاولة القرار.
- الصراع على البحر الأسود وشرق المتوسط يعكس بوضوح بقايا التوتر التاريخي بين روسيا والغرب، وكأن القسطنطينية ما زالت عقدة جيوسياسية غير محسومة.
- تركيا الحديثة، التي أُسندت إليها دور الحارس الأطلسي لمضائق البوسفور، جاءت كـ"حل وسط" غربي لمنع روسيا من الوصول إلى المياه الدافئة.
- وحتى الوجود الروسي في سوريا اليوم ليس سوى محاولة متأخرة لإعادة ترميم موطئ القدم الذي خسرته روسيا في زمن نيقولا الثاني.
باختصار، الخديعة لم تكن مجرد حدث سياسي عابر، بل لحظة مفصلية أعادت رسم هندسة الشرق، وحددت من سيكون "داخله" ومن سيُطرد إلى الهامش. ومن لم يُدعَ إلى مائدة التقسيم حينها، لا يزال يحاول انتزاع مكانه إلى اليوم… بالقوة أو بالدم.
خاتمة: ليس من يجلس على الطاولة كمن يُقدَّم عليها
لقد علّمتنا خديعة القسطنطينية أن الغرب لا يفي بوعدٍ حين تتغيّر موازين القوة، وأن من لا يفرض نفسه بالقوة والسيادة، فإن مكانه سيكون دومًا خارج الطاولة.
لم تكن خيانة نيقولا حدثًا منعزلًا، بل كانت بداية سلسلة طويلة من الخيانات التي صاغت قرنًا كاملًا من الهيمنة. وكل من تهاون في فهم تلك الخدعة، وجد نفسه لاحقًا جزءًا من خرائط لا يعرف كيف رُسمت، ولا لماذا اختنق فيها.