
فهل كانت "وحدة مصر والسودان" مشروعًا تكامليًا بين شعبين متكافئين، أم كانت غطاءً سياسيًا لمشروع الهيمنة المركزية باسم التاريخ؟
تاريخيًا، لم تكن دعوات الوحدة السياسية بين مصر والسودان تُطرَح باعتبارها شراكة بين كيانين، بل باعتبار السودان جزءًا ملحقًا بمصر، ينبغي استعادته.
حتى في خطاب النخبة القومية بمصر بعد ثورة يوليو، كان يُنظر إلى السودان كامتداد جغرافي، لا كهوية مستقلة.فعبارات مثل "استرجاع السودان"، أو "الحفاظ على وحدة وادي النيل"، كانت تُخفي داخلها تصوّرًا استعلائيًا، يرى مصر مركزًا حضاريًا والسيادة لها، بينما يُفترض من السودان أن يلتحق بهذا المركز.
عبد الناصر والسودان: تناقض الخطاب الوحدوي مع الممارسة السياسية
رغم الخطاب القومي التحرري الذي رفعه جمال عبد الناصر، فإن طريقة تعامله مع الملف السوداني كشفت عن تناقضات عميقة.
فحين استُشعر أن السودانيين يريدون استقلالًا حقيقيًا، بدأت أجهزة الدولة المصرية تمارس ضغوطًا ناعمة وخشنة معًا، لإبقاء السودان داخل المدار المصري.
الاستقلال السوداني لم يُرحّب به بحفاوة، بل اعتُبر تنازلًا اضطراريًا فرضه الواقع، لا خيارًا نابعًا من احترام الندية.
الإعلام المصري وصناعة وهم "السودان التابع"
في الصحف والسينما والمناهج التعليمية، صُوّر السودان دائمًا على أنه "جنوب مصر"، لا كدولة كاملة السيادة.
وظهرت صور نمطية تستبطن التفوّق الثقافي المصري والاختزال التبسيطي للسودان في صورة المكان الحار، البدائي، التابع.
حتى في الأعمال الفنية، كانت اللهجة السودانية تُوظّف غالبًا للتهكّم، في حين تُقدَّم اللهجة المصرية باعتبارها "الفصحى الثانية".
هكذا شُيّدت رمزيًا صورة المركز والهامش، رغم أن التاريخ المشترك يقول غير ذلك.
من التوحيد العثماني إلى التجزئة البريطانية: وحدة شكلية وتفكيك حقيقي
حين وحد محمد علي باشا مصر والسودان، فعل ذلك ضمن منطق السيطرة العسكرية، لا بناء الدولة المشتركة.
ثم جاء البريطانيون ليُبقوا الشكل الإداري الموحد، بينما زرعوا عمليًا بذور التفكيك، عبر نظام "الحكم الثنائي" الذي كان يُضعف المصريين في السودان ويُكرّس الانفصال التدريجي.
لقد استخدم الطرفان (محمد علي والبريطانيون) فكرة الوحدة، لكن من موقع نقيض: الأول للضم، والثاني للعزل الذكي.
النخبة السودانية: بين الهوية المستقلة والشك في "النوايا المصرية"
لم تكن النخب السودانية غافلة عن هذه الديناميات.
فقد ظهر في منتصف القرن العشرين تيار وطني سوداني يُنادي بالاستقلال التام، لا لأن السودان يرفض مصر، بل لأنه لا يريد أن يكون تابعًا لها.
لقد قرأ كثير من السودانيين خطاب الوحدة المصري على أنه خطاب فوقي، يتجاهل الخصوصية السودانية، ويتعامل مع السودان كـ"ملحق طبيعي" لا كشريك متساوٍ.
وحدة عادلة أم تبعية مقنّعة؟
هذا هو السؤال الحقيقي الذي كان ينبغي أن يُطرح: هل نقبل بوحدة تصهر الكيانات في مركز واحد؟ أم نبحث عن وحدة عادلة تقوم على احترام التعدد والندية والتكامل؟
ما حدث تاريخيًا هو أن فكرة "الوحدة" كانت تُطرح غالبًا من موقع القوي، وأن الخطاب الوحدوي كان أحيانًا واجهة تُجمّل بها السلطة نزعتها التوسعية.
الختام: حين تُستخدم المفاهيم النبيلة لتبرير الممارسة الفوقية
ليست المشكلة في مفهوم "الوحدة"، بل في من يُعرّفها ولصالح من.
فحين تكون الوحدة وسيلة للتكامل والاعتراف بالاختلاف، فإنها مشروع تحرر حقيقي.
أما حين تُوظَّف لابتلاع الهويات، ومحو الندية، فإنها لا تعدو أن تكون استعمارًا بلُغة رومانسية.
واليوم، بعد أن أصبح لكل دولة سيادتها، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل يمكن بناء وحدة جديدة على أسس عادلة؟ أم أن الجراح القديمة ستظل تحول دون الحلم المشترك؟