
لقد ورث عبد الناصر مصر ما بعد الاستعمار، لكنه لم يبنِ دولة حديثة مستقلة، بل أعاد إنتاج شكل سلطوي للسلطة تحت لافتة "الاشتراكية" و"القومية". فماذا تحقق فعليًا؟ وما الذي ضاع خلف الشعارات؟
الإطاحة بالملكية: هل كانت ثورة فعلاً؟
رغم أن عبد الناصر صُوِّر كقائد ثوري أطاح بالملكية الفاسدة، فإن انقلاب يوليو 1952 كان في جوهره حركة داخل الجيش بإشراف بريطاني-أمريكي غير مباشر.
الملك فاروق أُجبر على الرحيل دون مقاومة، والقصر الملكي لم يُمس، بل تم تسوية خروج العائلة المالكة بترتيبات هادئة. لم تُفتح جبهات مقاومة داخلية، ولم تكن هناك ثورة شعبية عارمة.
بعبارة أدق: الملكية خرجت لأن الغرب لم يعد يحتاجها، وليس لأن الشعب أطاحها.
من الغرب إلى السوفييت: حين أُغلقت الأبواب
في بدايات عهده، لم يكن عبد الناصر عدوًا للغرب كما يُصوَّر لاحقًا. حاول أن يُقدّم مصر كدولة مستقلة تبحث عن تنمية دون الدخول في لعبة المحاور. طلب تمويلًا لبناء السد العالي وتسليح الجيش، لكن الغرب اشترط عليه الانضمام لحلفه السياسي والقبول بالنفوذ الكامل والتطبيع مع إسرائيل.
حينها، اتجه عبد الناصر إلى الاتحاد السوفييتي لا إيمانًا بالشيوعية، بل هربًا من الهيمنة الغربية. السوفييت قدموا له:
- تمويلًا لبناء السد العالي
- سلاحًا استراتيجيًا
- دعمًا دبلوماسيًا دوليًا
لكنه ظل رافضًا لتطبيق الشيوعية داخل مصر، وأبقى على صيغة "الاشتراكية العربية" كواجهة محلية للنفوذ السوفييتي دون الدخول في الولاء العقائدي.
مشروع عبد الناصر: تحرر سياسي أم بناء سلطوي؟
المشروع الناصري حمل وعودًا ضخمة: العدالة الاجتماعية، مجانية التعليم، الإصلاح الزراعي، وتأميم قناة السويس.
لكن تحت هذه العناوين، تم تفكيك الحياة السياسية بالكامل:
- أُلغيت الأحزاب
- أُخضعت الصحافة
- أُسّس جهاز أمني ضخم
- حُوصر كل صوت مستقل
وهكذا بُنيت دولة أمنية باسم الجماهير، وأُسّس حكم الفرد باسم الاشتراكية.
أما الإصلاح الزراعي، فشابه ضعف التنفيذ، وخلق طبقة بيروقراطية جديدة تربّت في حضن الدولة الأمنية.
وأما العدالة الاجتماعية، فتحوّلت إلى تقنين للفقر العام، بلا نهضة إنتاجية حقيقية.
الوحدة والانفصال: فشل الحلم القومي
دخل عبد الناصر في مشروع الوحدة مع سوريا (1958)، لكنه فرض النموذج الأمني المصري على الحياة السياسية هناك، مما أدى إلى انهيار الوحدة خلال ثلاث سنوات فقط.
فالوحدة القومية بلا احترام للتنوع ولا مشاركة حقيقية، تحوّلت إلى ضم إداري فاشل، لا إلى تكامل شعبي.
حرب 1967: السقوط المدوّي
انتهت مغامرات عبد الناصر بهزيمة ساحقة عام 1967، ضاعت فيها سيناء، وانهار فيها كل ما رُوّج عن "الجيش العربي الموحد".
كانت الهزيمة فضيحة عسكرية وسياسية، لكنها وُظّفت إعلاميًا كـ"نكسة"، وخرج منها الزعيم مستعطفًا الناس بخطاب التنحي، فعاد أقوى!
النتيجة؟
شعبٌ مكسور، وجيش مهزوم، وبلد بلا رؤية، وزعيم لا يُحاسَب.
خلاصة
عبد الناصر لم يكن خائنًا ولا بطلاً كما يروّج الطرفان المتضادان. كان قائدًا يملك رؤية جزئية، استخدم أدوات سلطوية، وبنى دولة مركزية قوية لكنها بلا مؤسسات حقيقية.
سقط مشروعه لأنه لم يكن مشروعًا لبناء الإنسان والمؤسسة، بل مشروع زعيم استبدل الاحتلال بالخطب، والبرلمان بالمخابرات، والتنمية بالشعارات.