أنور السادات : صانع السلام أم مهندس التفكك العربي؟

تُروَّج صورة السادات في الغرب على أنه "رجل السلام" الذي أنهى الحروب وأعاد سيناء، بينما يُنظر إليه في بعض الأوساط العربية باعتباره من فكّك الجبهة العربية وشرعن التبعية لواشنطن.

لكن قراءة سيرته السياسية تتطلب تجاوز الروايات المعلّبة. فالسادات لم يكن مجرد رئيس بعد الحرب، بل كان مفصلاً تاريخيًا أعاد توجيه بوصلة مصر — من الاستقلال إلى الارتهان، ومن الصراع إلى التطبيع، ومن الدور العربي إلى العزلة الرسمية.


إرث عبد الناصر: سلطة ثقيلة وحلم مكسور

ورث السادات دولة مركزية ذات طابع أمني، وجيشًا مهزومًا بعد نكسة 67، واقتصادًا مختنقًا بالديون.
لكنه لم يختر البناء على ذلك المشروع لتصحيحه، بل اختار نسف الاتجاه بأكمله. أراد تدمير "الناصرية" لا تقويمها، فقام بإعادة تشكيل الدولة على أسس جديدة:

  • تحرير السوق بدلًا من العدالة الاجتماعية
  • الانفتاح على الغرب بدلًا من التوازن الدولي
  • التصالح مع إسرائيل بدلًا من دعم القضية الفلسطينية


من السوفييت إلى أمريكا: التحوّل الاستراتيجي الكامل

رغم أن الجيش المصري كان لا يزال يعتمد على الدعم السوفييتي، إلا أن السادات بدأ منذ 1972 عملية طرد الخبراء السوفييت، وإعادة رسم التحالفات العسكرية والسياسية.

تحوّله لم يكن مجرد مراجعة لموقف، بل انقلابًا جذريًا على موقع مصر الدولي. فبعد حرب أكتوبر، اختار أن يتجه كليًا إلى واشنطن، لا من موقع الند، بل من موقع الطالب للشرعية والتمويل.

أمريكا لم تقدّم الدعم مجانًا. بل فرضت:

  • الاعتراف بإسرائيل
  • الخروج من الجبهة العربية
  • القبول باتفاقات كامب ديفيد بشروط إسرائيلية

فأصبحت مصر — لأول مرة منذ قرون — دولة في المعسكر الأمريكي، ليست مستقلة، بل محسوبة ضمن أدوات الاستقرار الإقليمي لمصالح واشنطن وتل أبيب.


كامب ديفيد: سلام مقابل تفكيك

أعادت كامب ديفيد سيناء منقوصة السيادة، لكنها انتزعت مصر من محيطها العربي، فاختفت فكرة التضامن، وانهارت منظمة التحرير سياسيًا، وتُركت فلسطين لمصيرها.
أُخرجت مصر من المعادلة، لا كثمن السلام، بل كضمان لاستمرار الهيمنة الإسرائيلية.

وفي الداخل، استُخدمت اتفاقية السلام لتبرير مزيد من القمع، بحجة "حماية الاستقرار"، رغم أن السادات نفسه هو من أطلق شرارة التطرّف الديني بتوظيفه الإسلاميين لمواجهة الناصريين واليساريين.


لماذا اغتيل؟ ولماذا على يد الإسلاميين؟

اغتيال السادات لم يكن فقط ردّ فعل على اتفاقية السلام، بل كان نتيجة مركّبة لسياساته:

  • سمح بصعود الجماعات الإسلامية كي تضعف خصومه في الجامعة والإعلام.
  • أطلق الخطاب الديني المحافظ، وشرعن الجماعات كحلف سياسي ضد التيارات العلمانية.
  • ثم انقلب عليهم حين شعر بخطرهم، وزجّ بهم في السجون بعد أن استخدمهم.

هذا التناقض فجّر ردّ فعل دموي، جاء في لحظة رمزية (عرض عسكري)، ليُسقط الرجل الذي ظنّ أنه حصّن نفسه.

أما التسهيلات الغربية؟
فقد كانت غير مباشرة:
صمتٌ مخابراتي، تساهل في معلومات تحذيرية، ورغبة ضمنية في التخلص من رجل بات عبئًا سياسيًا بعد أن أتمّ مهمته. فالسادات خدم المعادلة، ثم أصبح غير مضمون، بمزاجه المتقلّب وكلماته التي أغضبت الجميع.


بين الانفتاح والفوضى

اقتصاديًا، تبنّى السادات سياسة "الانفتاح الاقتصادي"، لكنها لم تُبنَ على رؤية إنتاجية، بل على الاستيراد والتطفل الاستهلاكي. نشأت طبقة طفيلية ارتبطت بالفساد، وأُهملت الطبقة الوسطى.
أما الريف، فتُرك دون حماية، وانهارت منظومة التعليم والصحة تدريجيًا، وبدأت الفوارق تتوحش.


خلاصة

أنور السادات لم يكن خائنًا ولا بطلًا، بل سياسيًا شديد الواقعية، قايض السيادة بالتوازن، واستبدل الحرب بالسلام، لكنه نقل مصر من حلم الاستقلال إلى واقع التبعية.

فكانت اغتياله هو النهاية الرمزية لمسار بدأ بالتفكيك، وانتهى بالعزلة، حيث لم تعد مصر قلب العرب، بل قاعدة إقليمية ضمن هندسة أمريكية واسعة.

أحدث أقدم
🏠