
السردية تنهار: من المحرِّر إلى الجلاد
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، روّجت أمريكا لنفسها بوصفها منقذ الشعوب، وراعية الديمقراطيات، وحامية الحرية من براثن "الاستبداد الأحمر". لكن حرب فيتنام كشفت الوجه الآخر: قوة تسحق الشعوب تحت ذريعة تحريرها.
صور الأطفال المحترقين بالنابالم، القرى المدمرة، المدنيين العزّل تحت عجلات الآلة الحربية، كلها ظهرت على شاشات التلفاز الأمريكي. لم يعد ممكنًا إخفاء الحقيقة خلف بلاغات الجيش. وبدأ الأمريكيون يدركون أن الديمقراطية يمكن أن تكون سلاحًا استعماريًا حين تُفرض بالقصف.
تصدّع الثقة: من الإعلام إلى المؤسسة
مع تصاعد المعارضة للحرب، بدأ الشك يطال المؤسسات الرسمية. ظهر ما عُرف لاحقًا بـ**"أزمة الثقة"**: ثقة الأمريكيين في حكومتهم، جيشهم، وإعلامهم. وبلغت الأزمة ذروتها بعد تسريبات "أوراق البنتاغون" التي كشفت كيف كانت الإدارة تخفي الحقائق عن الشعب وتُزوّر مسار الحرب.
بات السؤال حاضرًا: هل كانت أمريكا تكذب علينا؟
والأخطر: هل نحن من صدّق الكذبة لأننا أردنا تصديقها؟
انفجار ثقافي: الفن كشهادة ضد الحرب
شهدت تلك المرحلة تحولًا ثقافيًا عميقًا. صعد جيل جديد من الموسيقيين والشعراء والروائيين، ممن عبّروا عن رفضهم للحرب وللنفاق السياسي. ظهرت أغاني احتجاجية مثل:
- "Fortunate Son" التي هاجمت امتيازات أبناء السياسيين الذين لم يُرسلوا للجبهة.
- "Give Peace a Chance" التي أصبحت شعارًا عالميًا للسلام.
كما ظهرت أفلام تسبر أغوار الجنود العائدين نفسيًا: مثل Apocalypse Now وPlatoon وThe Deer Hunter، حيث لم يُقدَّم الجندي الأمريكي كبطل منتصر، بل كضحية فقد بوصلته وسط ظلام لا أخلاقي.
سقوط الحلم الأمريكي: من النصر إلى الشك الوجودي
بعد فيتنام، لم تعد أمريكا تُصدّر "الحلم الأمريكي" بنفس الثقة. فالجيل الذي كبر على انتصارات الحرب العالمية، وجد نفسه أمام جيل منهك، مشكك، ناقم، يبحث عن معنى.
حركات الحقوق المدنية، نسوية، ومناهضة الاستهلاك، كلها تسلّحت بتجربة فيتنام لتقول:
"إن كانت أمريكا تكذب في الخارج، فهي تكذب في الداخل أيضًا".
بروز الوعي النقدي: ولادة جيل لا يصدق كل شيء
كان من آثار الحرب أيضًا ولادة جيل ناقد، يرى الإعلام بعين الشك، ويُسائل الحكومة، ولا يُسلّم بالسرديات الجاهزة. هذا الجيل لم يعد يرى الحرب وسيلة مجد، بل امتحانًا أخلاقيًا يكشف من نحن حقًا.
صار من المشروع أن نسأل:
- هل نُقاتل من أجل القيم؟ أم من أجل المصالح؟
- من يقرر الحرب؟ ومن يدفع ثمنها؟
خاتمة: مرآة فيتنام التي لا تزال تكشف العيوب
حرب فيتنام لم تكن حدثًا عسكريًا فحسب، بل زلزالًا أخلاقيًا وثقافيًا أعاد تشكيل وعي الأمريكيين بذاتهم. لقد فجّرت المرآة التي كانوا يتأملون فيها صورتهم المشرقة، فخرج منها وجه مشوّه لا يمكن إنكاره. ورغم محاولات استعادة الهيبة لاحقًا، ظلت فيتنام جرحًا مفتوحًا في العقل الأمريكي، ودرسًا لا يزال يُدرّس: أن من يتجاهل صوت الحقيقة، سيسمع صراخها وهو يتهاوى.