العراق : لماذا فشلت أمريكا.. النصر العسكري والهزيمة الاستراتيجية

تُعدّ حرب العراق واحدة من أكثر المحطات كلفةً وتعقيدًا في التاريخ الإمبراطوري الأمريكي الحديث، ليس فقط لأنها أطاحت بنظام سياسي، بل لأنها كشفت عن حدود القوة العسكرية عندما تنفصل عن الفهم التاريخي والثقافي والاجتماعي للمجتمعات المستهدفة. 
فبعد مرور أكثر من عشرين عامًا على الغزو، لا تزال الولايات المتحدة تدفع ثمن مغامرتها في بلاد الرافدين، سياسياً واقتصادياً ومعنوياً.
لكن ما الذي أرادته أمريكا من العراق؟ ولماذا فشلت في تحقيقه رغم امتلاكها أعتى آلة عسكرية عرفها العالم؟ وماذا جلبت هذه الحرب للولايات المتحدة حتى الآن؟

الأهداف المعلنة: خطاب تضليلي

عندما قررت واشنطن غزو العراق عام 2003، كانت الذريعة التي روّجت لها الإدارة الأمريكية وحلفاؤها الإعلاميون قائمة على حجتين مركزيتين:

  • امتلاك العراق أسلحة دمار شامل (ثبت لاحقًا أنها غير موجودة)
  • حاجة المنطقة إلى نموذج ديمقراطي يُسقط "الأنظمة الشمولية"

لكنّ هذا الخطاب لم يكن سوى غطاء لتبرير حرب جيوسياسية عميقة الأهداف، مدفوعة بمصالح استراتيجية وأطماع اقتصادية، منها:

  • السيطرة على النفط العراقي وإعادة تشكيل سوق الطاقة العالمية
  • إقامة وجود عسكري دائم في قلب المنطقة لاحتواء إيران ومراقبة الخليج
  • تأمين التفوق الإسرائيلي عبر تحطيم العمق الاستراتيجي لدول كالعراق وسوريا
  • فرض نظام إقليمي جديد يخضع لمعادلة "الفوضى الخلاقة" التي بشّرت بها كوندوليزا رايس

الغزو... وسقوط الدولة لا سقوط النظام

اجتاحت القوات الأمريكية العراق بسهولة عسكرية ظاهرة. سقط نظام صدام حسين خلال أسابيع قليلة، ولكن ما سقط فعليًا لم يكن النظام فقط، بل الدولة العراقية نفسها.

فبقرار حلّ الجيش ومؤسسات الدولة، دخل العراق في فراغ وجودي شامل، تحوّل بسرعة إلى ساحة مفتوحة للصراعات الطائفية والعرقية والسياسية، مما مهّد لنشوء تنظيمات مسلحة وفوضى أمنية شاملة.

لقد أسقطت أمريكا الدولة، لكنها لم تبنِ بديلًا قادرًا على ملء الفراغ، بل سلّمت العراق إلى واقع سياسي مفكك، خاضع لمحاصصة مذهبية وولاءات خارجية.


مقاومة شرسة... وحرب استنزاف غير محسوبة

لم تستقبل القوات الأمريكية بالورود، كما روّجت بعض الأصوات في بداية الحرب. بل واجهت مقاومة عراقية شرسة من جهات متعددة، سنيّة وشيعية على حدّ سواء، وأُجبرت على خوض حرب شوارع واستنزاف غير تقليدية.

  • انتشرت العبوات الناسفة في الطرقات
  • تصاعدت الهجمات اليومية على الجنود الأمريكيين
  • تحولت مناطق بأكملها إلى جبهات اشتباك مفتوحة

هذه المقاومة أنهكت القوات الأمريكية معنويًا وماديًا، وفضحت هشاشة نظرية "الحرب النظيفة"، وحوّلت الاحتلال إلى كابوس استراتيجي طويل الأمد.


إيران: الرابح الأكبر من الغزو

كان من المفارقات السوداء أن الغزو الأمريكي أطاح بعدوّ إيران الأول، ومهّد الطريق لصعودها داخل العراق. فمنذ سقوط بغداد، أخذت طهران في توسيع نفوذها من خلال:

  • دعم الميليشيات الشيعية المسلحة
  • السيطرة على القرار السياسي داخل الحكومات المتعاقبة
  • تعزيز حضورها الاستخباراتي والأيديولوجي في كل مفاصل الدولة

فبدل أن تُضعف الحرب إيران، قوّتها من الداخل العراقي، حتى بات العراق اليوم أحد أهم أوراق النفوذ الإيراني الإقليمي.


ولادة الوحش: داعش كابن غير شرعي للفوضى

في فراغ الدولة، ونتيجة السياسات الطائفية للحكومات المتعاقبة، وجرائم الاحتلال الأمريكي، ظهر تنظيم داعش كنتاج لهذا الخراب المتراكم.

لم يكن ظهور التنظيم سوى:

  • نتيجة مباشرة لحلّ الجيش العراقي وتفكيك المؤسسات
  • تغذية أمريكية غير مباشرة للجماعات المتطرفة في مواجهة النفوذ الإيراني
  • حالة من الانفجار المجتمعي أمام الظلم والإقصاء والفراغ الأمني

وبذلك، تحوّلت العراق من دولة مستقرة (ولو استبدادية) إلى مسرح لأخطر التنظيمات الإرهابية في العصر الحديث.


الخسائر الأمريكية: أكثر من مجرد فشل

رغم ادعاءات "النصر"، فإن ما جلبته هذه الحرب للولايات المتحدة كان كارثيًا على مستويات عدة:

1. خسائر اقتصادية فادحة

تجاوزت الكلفة المباشرة وغير المباشرة للحرب 2 تريليون دولار، تشمل:

  • الإنفاق العسكري واللوجستي
  • تكاليف علاج الجنود المصابين
  • الفوائد على الديون الناتجة عن الحرب

2. فقدان المصداقية الدولية

  • الفضيحة الكبرى في كذبة "أسلحة الدمار الشامل" دمّرت صورة أمريكا كقوة أخلاقية، وأضعفت شرعيتها أمام حلفائها وشعوب العالم.

3. تآكل هيبة الردع

انكشاف حدود القوة الأمريكية في العراق شجّع خصومها الإقليميين والدوليين على التجرؤ، مثل:

  • تمدد روسيا في الشرق الأوسط لاحقًا
  • صعود الصين في آسيا وأفريقيا
  • إيران كلاعب سياسي وعسكري في عمق "النفوذ الأمريكي المفترض"

4. نموذج الفشل في تصدير الديمقراطية

لم تُنتج الحرب نظامًا ديمقراطيًا حقيقيًا في العراق، بل دولة ضعيفة منهوبة، تتغذى على الانقسام الطائفي والفساد، وتتحكم فيها شبكات ولاء إقليمي.


الخلاصة: حين تتغلب القوة على الفهم... تنكسر الدولة وتنهار الهيمنة

لقد فشلت أمريكا في العراق، ليس لأنها لا تملك القوة، بل لأنها أساءت فهم المجتمع العراقي، وتعاملت معه باعتباره لوحة بيضاء يمكن رسمها بقرارات فوقية. لكنها وجدت أمامها:

  • مجتمعًا معقدًا تتداخل فيه الطائفة مع القومية مع الولاء القبلي
  • هوية جريحة لم تتعافَ من عقود الاستبداد والحصار
  • إرثًا تاريخيًا لا يمكن تجاوزه بمجرد تغيير العلم والحاكم

وهكذا، سقطت الاستراتيجية الأمريكية في فخّ الغرور، وتحول العراق إلى مستنقع رمزي لفشل الإمبراطورية، لا تزال تدفع أثمانه حتى اليوم.

أحدث أقدم
🏠