
الوجود الأمريكي في الصومال كان جزءًا من سياق أوسع من التدخلات العسكرية والسياسية في إفريقيا بعد الحرب الباردة، وقد مرّ بمراحل معقدة تتداخل فيها الأبعاد الإنسانية، الاستراتيجية، والاقتصادية، إلى جانب الخلفيات الجيوسياسية. لفهم أسباب الدخول والخروج الأمريكي من الصومال، لا بد من تفكيك المسألة في ثلاث مستويات:
ما الذي كانت تفعله أمريكا؟، ما أهدافها الحقيقية؟، ولماذا خرجت فجأة؟
أولاً: ما الذي كانت تفعله أمريكا في الصومال؟
دخلت أمريكا الصومال عسكريًا سنة 1992 ضمن عملية سُمّيت "عملية استعادة الأمل" (Operation Restore Hope) تحت غطاء إنساني بالتعاون مع الأمم المتحدة، بدعوى حماية الإغاثة الإنسانية في ظل مجاعة وحرب أهلية طاحنة بعد سقوط نظام سياد بري سنة 1991.
لكن التدخل تطوّر لاحقًا إلى عمليات عسكرية مباشرة ضد بعض الفصائل الصومالية، أبرزها فصيل الجنرال محمد فرح عيديد، مما أدى إلى اشتباكات دامية بلغت ذروتها في معركة مقديشو سنة 1993، والتي راح ضحيتها 18 جنديًا أمريكيًا وسُحل بعضهم في الشوارع، فيما عُرف لاحقًا بـ"بلاك هوك داون".
ثانيًا: ما الأهداف الحقيقية للتدخل الأمريكي؟
1. أهداف جيواستراتيجية:
-
الصومال يتمتع بموقع استراتيجي على مدخل البحر الأحمر وقرب مضيق باب المندب، وهو نقطة عبور أساسية في التجارة العالمية والنفط، والسيطرة عليه تمكّن من مراقبة الطرق البحرية الحيوية.
-
كان ذلك في سياق إعادة رسم خريطة النفوذ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث أرادت أمريكا ملء الفراغ ومراقبة التغلغل الصيني لاحقًا، والتأثير الإيراني.
2. أهداف ناعمة مغطاة إنسانيًا:
-
استخدمت أمريكا شعارات إنسانية (المجاعة، الفوضى، حماية الإغاثة)، لكنها كانت تغلّف بها مصالحها، كما يحدث في تدخلات أخرى.
-
استُخدم الملف الصومالي كميدان لاختبار نوع جديد من التدخلات: العسكرية الإنسانية Humanitarian Military Intervention.
3. أهداف اقتصادية:
-
كان ثمة طموح غير معلن باستكشاف ثروات طبيعية بحرية وبترولية على السواحل الصومالية، وخاصة مع تقارير مبكرة عن احتمال وجود نفط وغاز في القرن الإفريقي.
4. أهداف استخباراتية وتجريبية:
-
استخدم البنتاغون الساحة الصومالية لتجريب نمط جديد من الحروب الحضرية ضد "الميليشيات"، خاصة في بيئة غير نظامية وفوضوية، قبل الدخول في تجارب لاحقة مشابهة في العراق وأفغانستان.
ثالثًا: لماذا خرجت أمريكا فجأة من الصومال؟
1. الصدمة الإعلامية والسياسية:
-
مشاهد سحل الجنود الأمريكيين في شوارع مقديشو نُقلت للعالم كله، وأثارت غضبًا شعبيًا واسعًا داخل أمريكا، مما أدى إلى انهيار التأييد الشعبي للتدخل.
-
أدى ذلك إلى ما سُمّي في السياسات الأمريكية لاحقًا بـ"عقدة الصومال Somali Syndrome"، حيث باتت الإدارة الأمريكية تتردّد كثيرًا قبل أي تدخل بري جديد، حتى جاء غزو العراق بعد عقد من الزمن.
2. تغيّر الحسابات السياسية:
-
إدارة كلينتون التي ورثت التدخل من بوش الأب رأت أنه لا جدوى من الاستمرار في مستنقع دموي غير واضح الأهداف ولا يحظى بشرعية داخلية.
-
كان هناك إدراك بأن التدخل أضرّ بصورة أمريكا أكثر مما خدمها، وأن ميدان الصومال ليس مهيئًا لفرض نظام موالٍ أو حليف كما هو الحال في دول أخرى.
3. فشل الرهان على أدوات محلية:
-
لم تنجح أمريكا في كسب ولاء الفصائل الصومالية أو توحيدهم ضمن إطار حكم مستقر يخدم مصالحها، بل تصاعدت مقاومة محلية منظمة.
4. تحوّل في أولويات السياسة الخارجية:
-
مع تنامي تحديات في مناطق أخرى (مثل البلقان، العراق، وأزمات آسيا)، لم تعد الصومال تمثل أولوية، خصوصًا مع ارتفاع الكلفة وانعدام العائد الواضح.
خلاصة تحليلية:
الوجود الأمريكي في الصومال لم يكن بريئًا ولا "إنسانيًا" صرفًا، بل كان تدخلًا متعدد الأبعاد في لحظة إعادة ترتيب النظام العالمي بعد انهيار القطبية الثنائية. لكن غياب الحاضنة المحلية، وسوء تقدير البيئة الصومالية، إلى جانب الفضيحة الإعلامية والعسكرية، كلها عجّلت بانسحاب فوضوي، ما زال أثره ممتدًا حتى اليوم، في شكل غارات جوية متفرقة وتدخلات غير مباشرة عبر الوكلاء.