كمبوديا : الخمير الحمر.. تحول اليوتوبيا الثورية إلى جحيم أرضي

في سبعينيات القرن العشرين، تحوّلت كمبوديا إلى مختبر دموي لتجربة ثورية أرادت إعادة صياغة المجتمع من الصفر. قاد الخمير الحمر، بزعامة بول بوت، انقلابًا اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا شاملاً تحت راية "اليوتوبيا الشيوعية". فكان الحصاد: إبادة جماعية، تجريف للهوية، وتحويل الوطن إلى سجن مفتوح. ليست مأساة كمبوديا مجرد واقعة تاريخية دامية، بل نموذج صارخ يُظهر كيف يمكن للأفكار الثورية حين تُنزَع من بعدها الإنساني أن تتحول إلى أدوات قمع وهمجية باسم "التقدّم". 

إنها قصة دولة قررت أن تمحو ذاكرتها لتبني مستقبلاً من العدم، فانتهت إلى الفراغ والموت.

القطيعة الجذرية: حين يصبح التاريخ عدواً

بمجرد وصول الخمير الحمر إلى السلطة عام 1975، أعلنوا إلغاء كل ما سبقهم: لا مدارس، لا عملة، لا مدن. تمّ تفريغ العاصمة "بنوم بنه" من سكانها قسرًا، ونُقل الملايين إلى الحقول ليعيشوا في مجتمعات زراعية "نقية"، خالية من التلوث الطبقي والتعليمي والحضري. لقد أرادوا أن يعيدوا عقارب الساعة إلى "السنة صفر"، حيث يُولد الإنسان من جديد في حضن الثورة.

لكن ما سُمِّي بالولادة الجديدة لم يكن سوى إعلان موت جماعي للذاكرة، والثقافة، والتعدد، والحرية. فالتاريخ في هذا النموذج ليس مرآة للعبرة، بل حائط يُهدم بالكامل ليستحيل الناس إلى أدوات إنتاج خالية من الوعي.

تذويب الفرد: نهاية الذات وبداية "الجماعة"

في يوتوبيا بول بوت، الفرد لا قيمة له إلا بقدر ما يخدم "الجماعة الثورية". لا أسرة، لا دين، لا تعليم، لا لغات أجنبية، لا فن. بل لا يُسمح لك حتى بالتفكير بصوت مرتفع، فالكلام يُراقب، والابتسامة تُفسَّر، والصمت يُشكّ فيه.

لقد تم اختزال الإنسان إلى "عامل زراعي" مُطيع، لا يسأل، لا يعترض، ولا يحمل ذاكرة شخصية. فالهدف هو خلق مجتمع مفرغ من الذات، خاضع تمامًا للفكر الواحد والحزب الواحد والزعيم الواحد.

الهندسة الاجتماعية: حين يتحول الشعب إلى حقل تجارب

الخمير الحمر لم يكتفوا بالقمع السياسي، بل أرادوا إعادة هندسة الإنسان. التعليم أُلغي، الكُتّاب والمفكرون أُعدموا، حتى النظارات كانت تُعدّ دليلاً على الانتماء لطبقة متعلمة "يجب إبادتها". المشاعر العائلية أصبحت تُعدّ خطرًا على الولاء الثوري. كل ما هو "إنساني" صار يُنظر إليه كتهديد لـ"المشروع الجماعي".

وباسم هذا المشروع، قُتل ما يقارب مليوني إنسان من أصل ثمانية ملايين خلال أربع سنوات فقط. إنها مجزرة لم تُنفذ بالسلاح فقط، بل بالفكر، والنية، والجمود الإيديولوجي.

كيف يتشابه النموذج؟

قد يبدو النموذج الكمبودي متطرفًا وغير قابل للتكرار، لكنه في جوهره ليس فريدًا. هو الصورة الكاملة لجنون الأنظمة التي تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، وتسعى لصياغة "الإنسان النموذجي" بالقوة. يختلف الشكل واللون، لكن المنهج واحد: مصادرة الماضي، تذويب الهوية، وتبرير كل شيء باسم "الخلاص الجماعي".

في تجارب شبيهة، نجد أصداء هذا الجنون في محاولات التغريب القسري، أو الأسلمة الشكلية، أو إعادة تعريف الوطنية على مقاس السلطة. كل نظام يقرر كيف يجب أن يفكر الناس، وماذا يلبسون، وماذا يحبون أو يكرهون، هو مشروع استبداد مغلف بأوهام "الإصلاح".

في الختام: من "السنة صفر" إلى لحظة الوعي

ما يعنينا اليوم من مأساة الخمير الحمر ليس فقط ضحاياهم، بل الرسالة التي تُكتب بدمهم: أن أي مشروع تغييري، مهما كانت نواياه، إن لم يكن إنسانيًا، نقديًا، تعدديًا، فمصيره أن يتحول إلى كارثة.

الحرية لا تُخلق بالمحو، ولا تُفرض بالقوة، ولا تُنبت في الحقول المعسكرة. فبين أن تحرر الإنسان، أو تحوله إلى ترس في آلة... خيط رفيع. والوعي هو ما يصونه.

أحدث أقدم
🏠