البوسنة والهرسك : لماذا حسمت أمريكا الحرب بعد مماطلة طويلة؟

اندلعت حرب البوسنة والهرسك بعد تفكك يوغوسلافيا عام 1992، واستمرت حتى عام 1995، وشهدت واحدة من أفظع المجازر في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، أبرزها مجزرة سربرنيتسا
ورغم التغطية الإعلامية الواسعة، فإن التدخل الأمريكي الحاسم جاء متأخرًا جدًا، 
بعد ثلاث سنوات من الإبادة والتطهير العرقي الذي مارسته القوات الصربية، المدعومة ضمنًا من روسيا. فما سر هذا التباطؤ؟ 
ولماذا قررت أمريكا التدخل أخيرًا؟


أولًا: سياسة الإنهاك والترك للمحرقة

منذ بداية الصراع، لم تبدِ القوى الغربية – وعلى رأسها الولايات المتحدة – أي اندفاع لوقف المجازر. كانت صور الإبادة والاغتصاب والتهجير تبث علنًا، لكن الرد الفعلي ظل في إطار الإدانة الكلامية والمفاوضات الشكلية.

السبب؟ لأن هذه القوى كانت تطبق ما يمكن تسميته بـ"عقيدة الإنهاك":

  • ترك الجميع يضعف ويُنهك داخليًا حتى يصبح أكثر قابلية للقبول بالحلول التي تُملى عليه.
  • إضعاف المسلمين تحديدًا في أوروبا الوسطى، دون السماح بانتصارهم الكامل، حتى لا تتشكل نواة كيان مسلم مستقل ومتماسك، يُخشى أن يتحالف مع تركيا أو يعيد استنهاض الذاكرة العثمانية في البلقان.

ثانيًا: التوازن الروسي - الأمريكي

كان للصرب دعم روسي واضح، مباشر أو غير مباشر. وكانت أمريكا تدير حساباتها بعناية:

  • لا تريد مواجهة مباشرة مع روسيا في البلقان.
  • ولا تريد انتصارًا كاملاً للمعسكر الصربي قد يُفسّر كعودة للنفوذ الروسي في أوروبا الشرقية.

ولذلك، كان تأخير التدخل يخدم هذه الغاية: استنزاف الجميع مع إبقاء اليد العليا للغرب عند الحسم.


ثالثًا: ضغوط الإعلام العالمي والمجتمع المدني

مع توالي الصور الفظيعة للمذابح، بدأ الرأي العام العالمي، خصوصًا الأوروبي والأمريكي، يضغط بقوة على حكوماته، متهمًا إياها بالتواطؤ أو التقاعس.
بلغت هذه الضغوط ذروتها بعد مجزرة سربرنيتسا عام 1995، حين ذُبح أكثر من 8000 مسلم بوسني في أيام معدودة على يد القوات الصربية أمام أنظار قوات الأمم المتحدة الهولندية التي انسحبت بشكل مذلّ.

كان هذا الحدث نقطة تحول محرجة للغرب، خصوصًا بعد أن تبيّن أن التقاعس الدولي شكّل غطاء ضمنيًا للمذبحة.


رابعًا: عندما نضجت الشروط السياسية للتدخل

عندما أُنهكت كل الأطراف، وبلغت الكارثة مداها، وأصبح الرأي العام مهيّأ للتدخل، قادت أمريكا ضربات جوية لحلف الناتو في أغسطس 1995 ضد مواقع صربية، أنهت عمليًا التفوق الصربي.
ثم دعت إلى مفاوضات دايتون التي رسمت خريطة جديدة للبوسنة – مقسّمة وضعيفة – لكن بوقف شامل لإطلاق النار.

لم يكن هذا تدخلاً إنسانيًا، بل تدخلاً وظيفيًا:

  • يحقق توازنًا جديدًا يُبقي أمريكا هي الطرف المرجعي.
  • يمنع روسيا من بسط نفوذها.
  • يُنهي الحرب بعد أن أتمّت أهدافها من التفكيك والإضعاف.

الخلاصة

لم تكن المماطلة الأمريكية في حرب البوسنة عجزًا ولا لا مبالاة، بل كانت جزءًا من إستراتيجية محسوبة:

  • لإنهاك المسلمين ومنع تشكّل كيان قوي في قلب أوروبا.
  • ولإدارة الصراع ضمن إطار لا يتيح لروسيا ولا لصربيا تحقيق نصر ساحق.
  • وللوصول إلى تسوية سياسية تُدار أمريكيًا، لا دوليًا.

لقد جاء الحسم الأمريكي حين نضجت الشروط السياسية، لا حين بلغت المجازر ذروتها.

أحدث أقدم
🏠