هايتي: الثورة التي خُنقت… تحت أنقاض الفقر والتدخل

كانت هايتي أول بلدٍ من أصلٍ إفريقي ينجح في كسر قيود العبودية والاستعمار، وينتزع استقلاله بقوة السلاح عام 1804. لكنها بدل أن تُكافأ على هذه اللحظة الثورية، دخلت بعدها في نفق طويل من العقاب الجماعي. فبين ديون مفروضة بقوة السلاح، واحتلالات متكررة، وانقلابات مصنّعة، لم يُسمح لها يومًا بأن تلتقط أنفاسها. لقد انتصرت في معركة الحرية… لتُهزم في معركة البقاء.
وبدل أن تُروى كقصة إلهام، تحوّلت إلى عبرة لمن يعتبر: هذا ما يحدث لمن يجرؤ على كسر النظام العالمي.

كانت هايتي أول دولة سوداء تنال استقلالها بعد ثورة شعبية أسقطت الاستعمار الفرنسي عام 1804. لكن هذا الحدث العظيم لم يُترجم إلى نهضة، بل صار بداية لحصار دائم: حصار اقتصادي، سياسي، وحتى إعلامي. واليوم، تُعد هايتي أفقر دولة في نصف الكرة الغربي، رغم أنها وُلدت من رحم الثورة.


ولادة الثورة… ومولد الفاتورة

بعد نجاح الثورة الهايتية، طالبت فرنسا بتعويض مالي عن خسارتها للعبيد والمزارع! والكارثة أن هايتي وافقت، تحت تهديد الحصار. فدفعت أكثر من 21 مليار دولار (بقيمة اليوم) على مدى قرن كامل. هكذا بدأت الدولة حياتها غارقة في الديون، مكبّلة عن أي تنمية، لتدخل العصر الحديث مفلسة، لا تملك قرارها.


الديمقراطية تحت حراب المارينز

في القرن العشرين، أصبحت هايتي ميدانًا مفتوحًا للتدخلات الأمريكية. احتُلّت فعليًا عام 1915، وتمّت صياغة دستور جديد يسمح بملكية الأجانب للأراضي. ثم توالى دعم الأنظمة الديكتاتورية التابعة، مثل عائلة دوفالييه، التي حكمت بالحديد والنار لعقود، ونهبت الدولة بالكامل تحت حماية أمريكية بذريعة الاستقرار.


الكوارث الطبيعية... واستثمار المآسي

حين ضرب الزلزال المدمر البلاد عام 2010، لم تُبذل جهود حقيقية لإعادة الإعمار. مليارات الدولارات تدفقت كـ"مساعدات"، لكن أغلبها ذهب لمنظمات أجنبية، وشركات مقاولات أمريكية، وعقود إغاثة وهمية. أما الشعب، فظلّ تحت الخيام. الكارثة لم تكن في الزلزال، بل في المنظومة التي حوّلت الفقر إلى سوق، والمعاناة إلى فرصة استثمار.


بلد بلا زراعة... ولا صناعة

رغم أن هايتي بلد زراعي طبيعيًا، أُغرقت أسواقها بمحاصيل أمريكية رخيصة (خاصة الأرز)، ما دمّر الفلاحين المحليين، وقطع دورة الاكتفاء الذاتي. وبفعل "روشتات البنك الدولي"، فُرضت الخصخصة وخفض الدعم وفتح الأسواق، دون أي حماية للصناعة المحلية، فاختفت المصانع، وانتشرت البطالة، وتحولت البلاد إلى اقتصاد استهلاكي هش، لا ينتج شيئًا.


انتخابات شكلية... لتكريس الفوضى

يُجرى الاقتراع بانتظام، لكن لا أحد يحكم فعليًا. رؤساء يتم تغييرهم بإملاءات خارجية، وبرلمانات تُحل، ومليشيات مسلّحة تسيطر على الأحياء. الأمم المتحدة تنشر بعثات، لكن دون تفويض حقيقي. كأن الدولة صُممت لتبقى في حالة "نصف حياة": لا تنهض، ولا تموت، بل تبقى في قبضة الفقر والوصاية.


فقر مقصود... لا قدر محتوم

ليست هايتي فقيرة لأنها بلا موارد، بل لأنها خُطط لها أن تبقى كذلك. من "التعويضات" المهينة لفرنسا، إلى التدخلات الأمريكية، إلى سياسات الإغراق، إلى فساد المنظمات، كلها خيوط في شبكة واحدة: بلدٌ يجب أن يبقى فقيرًا، لأنه قدّم للعالم سابقة مرعبة: شعبٌ أسود انتصر… ولا ينبغي أن يُسمح له أن يُلهم الآخرين.

أحدث أقدم
🏠