التفقير الممنهج: جمهورية الكونغو الديمقراطية: كنز العالم المدفون تحت رماد الحروب

تبدو الكونغو الديمقراطية كأنها جرح مفتوح في قلب إفريقيا، لا يندمل رغم كل "مبادرات التنمية" و"خطط السلام". دولة تفوق مساحتها غرب أوروبا مجتمعة، وتحتها ترقد أعصاب الاقتصاد الرقمي العالمي، من الكوبالت إلى الكولتان. لكن هذا الكنز ليس لها، ولا لشعبها، بل لمن يُتقنون فنّ النهب الحديث. فهنا لا تُشنّ الحروب باسم النفط، بل تُموّل كي تبقى المناجم مفتوحة، والدماء جارية، والثروة سائبة… بلا صاحب. هذه ليست قصة دولة فاشلة، بل نظام فاعل، مصمَّم بدقة ليحوّل كل غنى إلى فقر، وكل بشر إلى ترسٍ في ماكينة لا تعرف الرحمة.

تبدو الكونغو الديمقراطية كأنها لعنة جغرافية: بلد ضخم، يحوي ما لا يحصى من الثروات المعدنية النادرة، ومع ذلك يرزح تحت واحد من أكثر معدلات الفقر، والدمار، والفساد على الكوكب. لكن الحقيقة أعقد من ذلك: الفقر هنا ليس نتيجة سوء حظ، بل نتاج هندسة متعمدة، لتحويل الثروة إلى نقمة، والسكان إلى عبيدٍ لاقتصاد عالمي لا يرحم.


ثروة لا تُقدّر بثمن... لكن لمن؟

الكونغو تحوي أكبر احتياطي عالمي من الكولتان والكوبالت، معادن نادرة تُستخدم في الهواتف الذكية، السيارات الكهربائية، وأجهزة الكمبيوتر. كما تحوي الذهب، الألماس، واليورانيوم. لكن من يحصد الأرباح؟
ليست الحكومة، ولا الشعب، بل شركات متعددة الجنسيات، ميليشيات محلية، وأمراء حرب يمولهم اللاعبون الدوليون خفية.


من الاستعمار إلى السمسرة: نهب مستمر

منذ أن منح الملك البلجيكي ليوبولد الثاني نفسه "ملكية" الكونغو كإقطاعية خاصة، عاشت البلاد تحت نموذج نهب منظم. قُطعت أيدي آلاف العمال السود في حقول المطاط إذا لم يبلغوا الحصص. وبعد الاستقلال، أُسقط الزعيم الوطني باتريس لومومبا في انقلاب بدعم غربي مباشر، لأنه كان يريد تأميم الثروات. وأُدخلت البلاد في دوامة حكم عسكري طويل قاده موبوتو سيسي سيكو، الذي حكم بـ"الفساد كاستراتيجية"، مقابل ولائه للغرب.


حروب لا تنتهي... كي لا تنمو

منذ التسعينات، دخلت البلاد في سلسلة من الحروب الإقليمية، توصف بأنها "الحرب العالمية الإفريقية"، بسبب كثرة الأطراف المتدخلة فيها. يُحرّك النزاع صراع على المناجم، يموّل الميليشيات، ويغطي على نهب يومي للثروات.
أكثر من 5 ملايين قتيل منذ 1998، لكن لا توجد تغطية إعلامية تليق بهذا الرقم. لماذا؟ لأن الحرب تضمن انسياب الموارد دون مساءلة، والفوضى تحمي مصالح المستثمرين.


الفقر كقيد... لا كحالة عابرة

رغم الموارد الهائلة، يعيش أكثر من 70٪ من السكان تحت خط الفقر. الكهرباء نادرة، والمياه النظيفة رفاهية، والمدارس نادرة. ما يُنتج في المناجم لا يُعاد استثماره، بل يُهرب.
الشعب ليس جزءًا من المعادلة، بل مجرد وسيلة: عمال مناجم بأجر زهيد، تحت السلاح، بلا ضمانات ولا أمل.


شركات عالمية... وجرائم بلا اسم

توثّق منظمات دولية كيف تعمل شركات تكنولوجية كبرى على شراء الكوبالت من شبكات غير شفافة، تمر عبر وسطاء، ميليشيات، وشركات وهمية. أطفال بعمر العشر سنوات يُرسلون للعمل في المناجم مقابل دولار واحد في اليوم. لا رقابة، لا قانون، ولا مساءلة. فقط أجهزة لامعة تُباع في المتاجر، مخفيةً خلفها قصة عرق ودم.


دولة شكلية... تغطّي السوق السوداء

الحكومات المتعاقبة في الكونغو لا تحكم فعليًا إلا العاصمة وبعض المدن. أما الشرق، حيث تتركز الثروات، فهو موزع بين فصائل مسلحة وشبكات تهريب. الانتخابات تُجرى، لكن السلطة الحقيقية في من يسيطر على المناجم، لا على البرلمان.
الدولة هنا مجرد ستار لتسويق "الشرعية"، بينما الحقيقة في يد من يملك القوة والسلاح والعقود مع الخارج.


حين تصبح الثروة نقمة

ليست مأساة الكونغو أنها فقيرة، بل أنها أغنى من أن تُترك بسلام. الموارد التي تُعدّ كنزًا للبشرية، تحولت إلى لعنة على سكانها. والفقر هنا ليس ناتجًا عن نقص، بل عن فائض لا يُسمح له أن يُستثمر لصالحهم. هي ليست دولة منهارة… بل نظام استنزاف مُحكم، باسم السوق، وبغطاء ديمقراطي هش.

سلسلة: الفقر والتفقير الممنهج

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.