التفقير الممنهج: غينيا الاستوائية: ثروة تُنهب... وفقر يُدار

في قلب القارة السمراء، تقف غينيا الاستوائية كأحد أغرب التناقضات المعاصرة: دولة صغيرة الحجم، هائلة الثروة، شديدة البؤس. فهي تملك أحد أعلى معدلات الناتج القومي للفرد في أفريقيا، بفضل النفط، لكنها تحتل مراتب دنيا في مؤشرات التنمية البشرية. خلف واجهات الفنادق الفاخرة والمطارات الحديثة، يعاني المواطن من انقطاع الكهرباء، وغياب الماء النظيف، وانهيار الصحة والتعليم. لا يُفسر هذا الفقر بالفشل، بل بتصميم سياسي واعٍ لإقصاء الشعب عن ثروته. فحين تتحول الدولة إلى شركة، يصبح الشعب مجرد تكلفة زائدة.

في الظاهر، تبدو غينيا الاستوائية دولة نفطية مزدهرة، بدخل قومي مرتفع مقارنة بجيرانها في أفريقيا. لكن هذه الصورة اللامعة تخفي واقعًا بالغ القسوة: بلد غني بموارده، فقير بشعبه، تُدار مؤسساته وكأنها شركة خاصة تخدم عائلة واحدة، بينما يُمنع شعبه من الاستفادة من ثروته عمداً، تحت مظلة دولية تغضّ الطرف.


دولة تسبح فوق بحر من النفط... ولا تصلها الكهرباء

منذ اكتشاف النفط في التسعينات، تدفقت المليارات على الدولة الصغيرة، وجعلتها في قائمة أغنى الدول الإفريقية من حيث الناتج القومي للفرد. لكن الحقيقة أكثر قسوة: أكثر من نصف السكان لا يملكون كهرباء، ولا مياه نظيفة، ولا خدمات طبية أساسية. الثروة تُصدَّر مباشرة إلى الخارج، في حين تعيش المناطق الداخلية في عزلة تامة.


تحالف النفط والاستبداد: العائلة أولاً

الرئيس تيودورو أوبيانغ يحكم البلاد منذ عام 1979، ويُعدّ أقدم رئيس في الحكم عالميًا. سيطر على مؤسسات الدولة، وحوّلها إلى مزرعة خاصة لعائلته، بينما تتحكم الشركات الأمريكية (مثل ExxonMobil وChevron) بآبار النفط، دون أي التزام تنموي حقيقي تجاه السكان. وابنه، تيودورين، يمتلك يختًا ذهبيًا وطائرة خاصة وقصورًا في باريس، صادرتها محاكم أوروبية بتهم الفساد… لكنه رغم ذلك يشغل منصب نائب الرئيس.


مشاريع استعراضية... لتنمية شكلية

أُنفقت المليارات على مطارات عملاقة، ملاعب كرة قدم فخمة، وفنادق خمس نجوم خالية من النزلاء، فقط لتجميل صورة النظام. لكن لا يوجد أي مشروع حقيقي لتحسين معيشة المواطن. التعليم متهالك، والمستشفيات تفتقر حتى لأدنى التجهيزات. التنمية هنا مجرد ديكور، يُعرض على الإعلام… لا يُلمس على الأرض.


فقر مقصود لا عجز عشوائي

المفارقة أن الفقر في غينيا الاستوائية ليس نتيجة فشل إداري، بل سياسة مقصودة لإبقاء الشعب خاضعًا. ما دامت السلطة مضمونة والثروة آمنة في حسابات الخارج، فلا حاجة لإزعاج النظام بإصلاحات حقيقية. وكل محاولة للاحتجاج تُقابل بالقمع، وسط تواطؤ دولي صامت، ما دامت مصالح الطاقة مؤمّنة.


غطاء دولي للفقر المؤسسي

رغم الفضائح الدولية حول الفساد وغسيل الأموال، لم تفرض أي دولة غربية عقوبات حقيقية على النظام. تُجرى انتخابات كل بضع سنوات، يفوز فيها الرئيس بنسبة تتجاوز 90٪، فقط لتوفير قشرة "شرعية"، بينما يتم سحق المعارضة وتكميم الصحافة. الفقر هنا لا يُعدّ مشكلة، بل جزءًا من الصفقة: نظام مطيع مقابل موارد مضمونة.


المفارقة: بلد غني، شعب فقير، ونظام يزداد غنى

هكذا تُدار الدولة كأنها شركة:
النفط للمالك، الشعب بلا خدمات، والمجتمع الدولي يصفق للاستقرار. هذه ليست دولة فاشلة… بل دولة ناجحة جدًا في مهمتها: ضمان التدفق النفطي، دون ضجيج حقوقي أو تنموي.

سلسلة: الفقر والتفقير الممنهج

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.