
لكن ما حدود هذه الطاعة؟ ومن يحددها؟ وهل تحولت من فضيلة قرآنية إلى أداة سياسية بيد السلطة؟
أصل الفكرة: آية واحدة تُفسِّر العالم
يرتكز خطاب الطاعة على آية واحدة تُكرَّر في كل محفل:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ".
لكن الخطاب الرسمي يغفل – عمدًا – عن استكمال السياق الذي يبيّن أن الطاعة مشروطة، وليست مطلقة، وأن مرجع الخلاف هو:
"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، لا إلى الأمير ولا المفتي.
ومع ذلك، تحوّلت الآية إلى سلاح تأديبي، يلوّح به على المنابر ووسائل الإعلام، ليُخيف به المخالف، ويمنح "ولي الأمر" حصانة دينية لا يُساءل معها.
من التوحيد إلى الترويض: حين تلتقي العقيدة بالسلطان
في كتب العقيدة الوهابية، نجد فصلًا ثابتًا يُكرّس مفهوم الطاعة لولاة الأمر، ويحذّر من الخروج عليهم، مهما بلغ ظلمهم أو فسادهم.
بل نُقلت أقوال مثل: "يُصلى خلف كل إمام برًا كان أو فاجرًا"، و**"اسمع وأطع، وإن أخذ مالك وجلد ظهرك"**، لتُصبح قاعدة فقهية فوق كل اعتبار.
وهنا يتجلّى جوهر التحالف:
العقيدة تُغطي السلطة، والسلطة تحمي العقيدة.
الدين يصبح أداة ضبط، لا أداة تحرر.
حاكم لا يُنصح علنًا، وشعب لا يُسمع له سرًا
في هذا النموذج، يُمنع النقد العلني للحاكم، ولو ظلم أو خان أو أهدر المال العام.
فـ"الناصح في السر" هو المسلم الحقيقي.
أما "الناقد في العلن"، فهو خارجي، مفارق للجماعة، مُهدِّد لوحدة الصف.
لكن متى كان الاستبداد يوحّد الصف؟
وكيف يمكن للشعوب أن تصلح أمرها إن مُنعت من مجرد التعبير عن فساد حكّامها؟
وهل الطاعة في الإسلام مطلقة، أم مربوطة بالمعروف والعدل؟
الطاعة والسياسة الخارجية: تديين الحلفاء وتكفير الأعداء
حين احتاجت الدولة لتحالفات مع قوى غربية، خرجت الفتاوى تباعًا:
- جواز الاستعانة بالكفار
- حرمة الخروج في المظاهرات
- قتال الخارجين على الحاكم أولى من مقاومة المحتل
هكذا صيغت فتاوى لاهوتية لتسوغ خيارات سياسية.
تمت فبركة مشروعية دينية لحروب السلطة، وتحريم ما يُزعجها، ولو كان حقًا مشروعًا.
نحو خطاب جديد: الطاعة ليست طقسًا دينيًا
الطاعة في الإسلام لا تُنتج العبودية السياسية، بل تُبنى على الشورى والعدل والمحاسبة.
فحين تنفصل الطاعة عن العدل، تتحول إلى عبء ديني على الضمير، لا إلى طاعة لله.
وحين تُجرّم المعارضة، ويُخوَّن الإصلاح، يصبح الدين مجرد حارس على أبواب القصر.
إن ما نحتاجه اليوم ليس فقهًا في طاعة الحاكم، بل فقهًا في محاسبته، ومتى يجب الخروج عليه، ومتى يجب عزله، ومتى يُعد خيانته خيانة لله ورسوله.