
هكذا تحوّلت المؤسسة الدينية من كونها سلطة معرفية مستقلة إلى ذراع ناعمة للسلطة السياسية، تتدخل لتكريس الأمر الواقع، وإضفاء هالة من القداسة على ما يُراد تمريره باسم الشرع.
من العالم إلى الموظف: تحوّل دور المفتي
في المراحل الأولى، مثّل بعض العلماء دورًا موازنًا للسلطة، يضع لها الضوابط، ويقف منها موقف الناصح.
لكن مع تشكّل الدولة الحديثة، تكرّست وظيفة المفتي لا كمجتهد مستقل، بل كـ"موظف حكومي برتبة دينية"، مهمته ليس استنباط الحكم، بل تأكيد الرواية الرسمية.
ويُصبح من غير المستغرب أن نجد:
- فتاوى تُجرّم التظاهر ضد الحاكم
- وتُحرّم الخروج في الانتخابات إن لم تأذن بها الدولة
- وتُبرّر التحالف مع الغزاة وتكفّر المقاومة إذا خالفت توجهات القصر
فتاوى تحت الطلب: من محاربة الشيوعية إلى حرب العراق
في الحرب الباردة، حين كان العدو هو الاتحاد السوفيتي، خرجت الفتاوى تُبشّر بالجهاد في أفغانستان.
وحين تحوّل العدو إلى الجماعات الإسلامية، أصبحت ذات الفتاوى تُحرِّم دعم "الفتن" و"الخوارج".
ثم في 2003، صدرت فتاوى تُدين مقاومة الاحتلال الأمريكي للعراق، بل وتمنع مجرد الدعاء على "ولاة الأمور" العرب المشاركين في التحالف.
كل ذلك حدث لا بتغير النص، بل بتغير التحالفات السياسية.
فالفتوى ليست بيانًا علميًا، بل مرآة لحاجات السلطة.
منبر الجمعة.. خطاب السلطة بصوت الشريعة
صعدت المؤسسة الدينية إلى المنبر، ولكن لا لتحيي ضمير الأمة، بل لتسويغ قرارات البلاط:
- فاليمن "فتنة"،
- وسوريا "ليست من شأننا"،
- و"الربيع العربي" مؤامرة،
- و"طاعة ولي الأمر" فريضة،
- والنصيحة في العلن "خيانة"،
- والحرية "فوضى".
هكذا تم استبدال صوت الشعب بصوت المفتي، واستُخدم المنبر لحقن الجماهير بمصل الخضوع، وتخديرها باسم الدين.
هل نحن أمام دين السلطة أم سلطة الدين؟
في هذا النموذج، يُستخدم الدين لخدمة الحاكم، وتُهمَّش القيم الكبرى: العدل، والكرامة، وحقوق الإنسان.
ويُعاد تعريف "البدعة" و"الفتنة" و"الجماعة" بما يناسب توجهات الدولة، لا ما يمليه الوحي.
والنتيجة:
- تهميش العلماء الأحرار
- صناعة طبقة من الدعاة الرسميين
- تشويه صورة كل من يطالب بالإصلاح
ما العمل؟: استعادة استقلال الفتوى من قبضة البلاط
إذا كانت الفتوى ستبقى أداة بيد السلطة، فلن يُنتَج وعي، ولن تُصلَح أحوال.
لكن إذا استعادت الأمة مؤسسة علمية مستقلة، حرة، تقف على مسافة من القصر، وترفض توظيف النص في خدمة النزوات، فإننا نكون أمام خطوة نحو تحرير العقل المسلم من الأسر.