
فكيف تحوّل المفتي من صاحب موقف إلى موظف؟ وما نتائج هذا التحوّل على الوعي الديني والمجتمعي؟
أولًا: الفتوى تحت السلطة
كانت الفتوى في الإسلام الكلاسيكي شأنًا علميًا مستقلًا، يصدر من عالمٍ يُحسب على الأمة لا على الدولة. وكان المفتي يوجّه الأمة في الشأن العام، يقيّم سلوك الحاكم، ويكشف الانحرافات باسم الشريعة. لكن مع صعود الدولة الحديثة، تم ضمّ المؤسسة الدينية إلى أجهزة الحكم، وصار الإفتاء وظيفة رسمية، مرتبطة بهيكل الدولة ومرتبطة بإرادة السياسي.
وهكذا، لم يعد المفتي يُسأل عمّا يُرضي الله، بل عمّا يُرضي النظام، فصار يُفتي بالتحريم والتحليل وفق اعتبارات أمنية، لا علمية أو أخلاقية.
ثانيًا: تسييس الفتوى... لا تديين السياسة
الخطير في هذه المعادلة هو أن الفتوى تحوّلت من أداة مقاومة إلى وسيلة تسويغ. فصار يُستخدم الدين لتبرير كل شيء: من القمع إلى الخصخصة، ومن الولاء للحاكم إلى التطبيع مع العدو. الفتوى لم تعد توجهًا للمجتمع بقدر ما صارت غطاءً للسلطة. وبدل أن يُقال للظالم: اتقِ الله، صار يُقال للمظلوم: اصبر واحتسب، فهذا قَدَر الله!
لقد تخلّى الفقيه الموظف عن وظيفة النصيحة، وارتضى بوظيفة التبرير، بل صار يسابق السياسي في الدفاع عن قراراته باسم الشريعة، حتى لو ناقضت المصلحة العامة أو النص الصريح.
ثالثًا: نتائج هذا الانقلاب
النتيجة الكبرى لهذا التحوّل هي اهتزاز ثقة الناس بالمؤسسة الدينية الرسمية. لم يعد المفتي صوت الضمير الجمعي، بل أصبح لسان حال السلطة، ولم يعد يُنظر إليه كحامل للعلم، بل كحامل للقرار. وتحوّلت المسائل الكبرى من فقه اجتماعي إلى بيانات صحفية. حتى الحروب، والمآسي، والعدوان، لم تعد تثير فقهًا يقاوم، بل تُقابل ببيانات تدعو لضبط النفس، والدعاء للولاة!
هذا الانحراف لا يُفقد الدين سلطته فحسب، بل يُفقد المجتمع البوصلة الأخلاقية، ويجعل العامة في حالة اضطراب دائم بين ما يسمعونه من الخطاب الرسمي، وما يعرفونه من أصول دينهم.
رابعًا: الحاجة إلى فقهاء أحرار
ما نحتاجه اليوم ليس مجرد علماء يعلمون، بل فقهاء يصدعون بالحق، لا يخشون السلطة، ولا يطلبون رضاها. نحتاج من يعبّر عن روح الشريعة لا عن خطط الوزارة، من ينطق باسم الأمة لا باسم المكتب الإعلامي. فاستقلال الفتوى عن السلطة ليس ترفًا، بل شرط ضروري لحفظ الدين من التوظيف، والمجتمع من التضليل.
ولن يُستعاد وعي الأمة إلا حين نعيد للمفتي مكانته كضمير حيّ، لا كموظف يُجيد الصمت إذا استُدعي، والنطق إذا أُملي عليه.
خاتمة: الدين لا يُوظّف
حين يُستخدم الدين كأداة سياسية، يخسر الجميع: الحاكم، لأنه يفقد النصح الحقيقي، والعالم، لأنه يفقد احترام الناس، والأمة، لأنها تفقد مرشدها الأخلاقي. لهذا، لا بد من فصلٍ حقيقي بين الوظيفة السياسية والخطاب الديني، ليس فصلًا عدائيًا، بل تحريرًا للدين من التوظيف، وإعادة له لدوره الطبيعي: تصويب البوصلة، لا تزويق الانحراف.