الوهابية: بين الورع والتورع.. حين يُخدَّر الضمير باسم التقوى

الوهابية والتحالف االديني السياسي: 
في وجدان المسلم، كان الورع سلوكًا نبيلًا، يعكس حسًّا مرهفًا بمراقبة الله، وتجافيًا عن الشبهات، وسموًّا عن الدنايا. لكنه في سياق معين، تحوّل إلى وسيلة لتخدير الضمير، وتجميد الموقف، والانزواء عن مواجهة الظلم. 

فما الفرق بين الورع الحقيقي والتورع المزيّف؟ وكيف يتحوّل خطاب الزهد والتقوى إلى ستار يشرعن الصمت والتقاعس؟


أولًا: الورع الحقيقي.. موقف لا انسحاب

الورع في أصله ليس انسحابًا من العالم، بل انخراطًا فيه بضوابط أخلاقية صارمة. هو أن تكون في السوق ولا تظلم، في الحكم ولا تفسد، في القوة ولا تطغى. أن تختار الصدق مع ما فيه من خسارة، والعدل مع ما فيه من خطر.

لكن حين يُختزل الورع في اجتناب الفتوى، أو صمت عن الباطل، أو لزوم "السلامة"، يتحوّل إلى تبرير للخذلان.

ثانيًا: التورع المزيّف.. حين يُستعمل الخير في الشر

في كل العصور، وجد المستبدون فقهاء يتورّعون عن قول كلمة حق، وهم في أعماقهم يدرون الحقيقة. يتعلّلون بـ"خوف الفتنة"، و"درء المفاسد"، و"عدم الخوض في السياسة"، و"الابتعاد عن الخلاف"، بينما الفساد يعمّ، والباطل يُشرعن، والدماء تُسفك.

هؤلاء لا يقولون: "الباطل حق"، بل يصمتون عنه، ويُلبسون صمتهم لبوس الورع.

ثالثًا: صناعة الزهد السلبي

في لحظة ما، صار الزهد مرادفًا للفقر، والصمت، والانكفاء. وغُيّب الزهد الذي يُعلّمك أن تملك السلطة ولا تُستعبد بها، وأن تُعرض عن المال وأنت قادر على جمعه، لا أن تهرب من المسؤولية وتدّعي التقوى.

وهنا يُعاد تشكيل "الورع" ليخدم الاستبداد: فالصامت "تقي"، والناقد "متهور"، والمطالب بالعدل "مُفتن".

رابعًا: حين يصبح الحياد خيانة

في لحظات المفصل التاريخي، لا يكون الصمت حيادًا، بل خيانة. الورع الحق هو أن تقول كلمة الحق عند سلطان جائر، لا أن تلوذ بالزويا. أن تقف مع المظلوم، لا أن "تتورّع" عن الانحياز. الورع الذي يُعيق العدالة، ليس ورعًا، بل شلل أخلاقي.

وقد بيّن النبي ﷺ أن "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"، لا ترك الناس للظلم بحجة التورع.

خامسًا: المعضلة الأخلاقية المعاصرة

اليوم، يُحتفى بكثير من العلماء والدعاة الذين لا يقولون شيئًا، ولا يُغضبون أحدًا. يُنظر إليهم كرموز "اعتدال" و"حكمة"، بينما الحقيقة أنهم أعادوا إنتاج الورع بصورة تعقيمية ناعمة، تُبعد الدين عن ميدان الصراع الأخلاقي.

وهذا يجعل الدين في نظر الأجيال الجديدة غير ذي جدوى، لأنه لا يحل أزمة، ولا ينصر مظلومًا، ولا يمنع طاغية.

خاتمة: الورع لا يلغي الشهادة

الورع الحق لا يمنعك من الشهادة على الناس، ولا من مقارعة الظلم، بل يدفعك إلى ذلك. الورع ليس جدارًا تعتزل خلفه، بل مرآة ترى بها نفسك، كي لا تُخدع عن موقعك من الحق. والساكت عن الباطل ليس وارعًا، بل شاهد زور صامت.


أحدث أقدم
🏠