
أولًا: الحياد ليس دائمًا فضيلة
في النزاعات الفكرية، قد يكون الحياد وسيلة لفهم أوسع، وفي الخلافات الشخصية قد يكون الحياد نُبلاً. لكن في مشاهد الظلم البيّن، يصبح الحياد موقفًا، ويُقاس أخلاقيًا كأي موقف آخر. لأنه ليس امتناعًا عن الانحياز، بل انحياز ضمني للسلطة الأقوى، حين تُترك الضحية وحدها.
فالحياد حين تُمزَّق أوطان، ويُشرعن القتل، وتُشوَّه الحقيقة، لا يُبقيك خارج الصراع، بل يجعلك شاهد زور يُجيد التبرؤ.
ثانيًا: الحياد يُعادل النفي الرمادي للحقائق
الخطاب الحيادي المعاصر غالبًا ما يُعيد إنتاج السردية الأقوى تحت غطاء الموازنة. فيُقال: "الطرفان مخطئان"، "كلاهما مارس العنف"، "لا يمكن الجزم بشيء"... فتُسوّى الحقيقة بالافتراء، والمُعتدى عليه بالمعتدي، والمقاومة بالإرهاب، تحت عباءة "عدم الانحياز".
وهنا يُسلب المظلوم حقه مرتين: مرة بالفعل، ومرة بالتأويل.
ثالثًا: الخوف يُصنع على هيئة اتزان
كثير ممن يلوذون بالحياد لا يفتقرون إلى وعي، بل إلى شجاعة. فيخشون خسارة مكانة، أو غضب سلطة، أو مواجهة رأي عام. فيُزيّنون جبنهم بعبارات "التحليل الهادئ"، و"القراءة الموضوعية"، و"البُعد عن الانفعال"، بينما ينزف الواقع دمًا.
وهذا "الحياد" ليس وعيًا، بل قناع يُخفي تخلّيًا مخزيًا عن المسؤولية الأخلاقية.
رابعًا: تواطؤ من نوع أنيق
الحيادي في لحظة الجريمة، لا يمنع الجريمة، بل يمنحها غطاءً من المشروعية الضمنية. يُصبح صوتًا ثالثًا يُربك الضمير، ويؤجل الفعل، ويُخدّر الغضب، ويُروّج لفكرة أن "الحقيقة نسبية"، حتى لو كانت الصورة واضحة كالشمس.
في هذا الحياد يُعاد إنتاج الظلم بصيغة فكرية نظيفة، خالية من الضجيج… لكنها ملوثة بالموقف.
خامسًا: الحياد في زمن القضايا الكبرى.. خيانة ناعمة
حين تُشن الحروب، وتُنهب الثروات، وتُهدم البيوت فوق رؤوس أصحابها، فإن الحياد ليس مقبولًا. حين تُفرض سرديات كاذبة لتبرير الاحتلال والهيمنة، فإن الصمت ليس توازنًا، بل خذلان.
إن الانحياز للحق، مهما كان مكلفًا، هو الموقف الذي يصنع التاريخ. أما الحياد، فمكانه غالبًا في هامشٍ بلا لون ولا ذاكرة.
خاتمة: من لم يكن مع الحق، فهو مع الباطل بصمته
الحياد ليس دائمًا شجاعة، بل قد يكون شكلاً راقياً من الجُبن أو الارتزاق. وفي زمن التزوير الشامل، فإن السكوت تواطؤ. والذين يلوذون بالصمت حين يتطلب الموقف كلمة، لا يمكنهم ادعاء الطهر. لأن من يرى الجريمة ويسكت، لا يقل إثمًا عمن يرتكبها.