
أولًا: صناعة الهزيمة في الوعي قبل الواقع
لم تُهزم أمم كثيرة في معارك السلاح فقط، بل في معارك التفسير. إذ يتم ترويج خطاب يُحمّل الضحية المسؤولية، ويُبَرّئ المعتدي، ويجعل من الهزيمة "مصلحة"، ومن الاستسلام "واقعية سياسية". ويُعاد ترتيب اللغة بحيث يصبح من يُقاوم هو "المتطرف"، ومن يُهادن هو "الحكيم".
وهكذا تُبنى شرعية الانهزام على أنقاض الكرامة.
ثانيًا: تفكيك فكرة المقاومة عبر النمذجة السلبية
من أبرز أدوات هذه الثقافة تقديم نماذج مشوّهة للمقاومة: فالمقاوم إما متهور، أو متشدد، أو لا يفقه السياسة. بينما يُنمذج المستسلم على أنه "العاقل المتزن" و"المنفتح على العالم"، الذي "يفهم معادلات القوة". فينقلب المعيار: تُذم البطولة، ويُمدح الخنوع.
ويصبح الصوت الأعلى هو الذي يُجيد التبرير لا التغيير.
ثالثًا: تجميل العجز وإعادة توصيفه
"لسنا في موقع يسمح لنا بالمواجهة"، "الظروف لا تسمح"، "الواقعية تقتضي القبول"... هكذا تُصاغ أدبيات الهزيمة. لا أحد يعترف بالخنوع، بل يُعاد تعريفه كحكمة، ويُقدَّم العجز كخطة، ويُحوّل التراجع إلى "استراتيجية تأجيل"، وتُفرغ الكلمات من معانيها حتى لا يبقى للكرامة معنى.
رابعًا: التلقين عبر التعليم والإعلام
منظومة الاستسلام لا تُترك للصدفة، بل تُلقن منذ الطفولة: في الكتب، في الشاشات، في الخطب، وفي الحكايات المكررة عن بطولات مزعومة تنتهي دومًا بهزائم "مشرّفة"، يُعاد تصديرها كأمجاد وهمية تخدّر الوعي. فيكبر الطفل معتادًا على فكرة أن الخضوع هو الخيار الوحيد المتاح.
خامسًا: أثرها على الأجيال الجديدة
أخطر ما في ثقافة الاستسلام أنها لا تصيب جيلًا واحدًا، بل تُورّث. فتنتقل كقناعة جمعية، وتُخلق هوية مهزومة تتوارث الهزيمة كقدر. فتتلاشى الأسئلة الجذرية، ويتراجع السخط، ويصبح أقصى الطموح هو تحسين شروط التبعية لا كسرها.
خاتمة: المقاومة تبدأ من اللغة
لا تُهزم أمة حتى تُهزم لغتها عن قول "لا". فإذا بقيت الكلمة حرة، بقي الأمل ممكنًا. ومهما تعددت صور الاستسلام، فإن الوعي بكونه خيارًا لا قدرًا، هو الخطوة الأولى نحو كسره. لأن أول نصر تحرزه أمة مهزومة، هو أن تعترف أنها هُزمت، لكنها لم تُستَلب.