
من الواقعية إلى الترويض: الفرق بين الإدراك والتبرير
الفرق شاسع بين فهم الواقع لتحليله والعمل على تغييره، وبين قبوله كقدر لا يُرد. الواقعية، في معناها الحقيقي، هي الانطلاق من الواقع لا الاستسلام له. لكنها حين تتحول إلى "عقيدة" تبريرية، تصبح أداة للتهوين من قضايا كبرى: كالاحتلال، والاستبداد، والفساد البنيوي، فتُعرض هذه القضايا كتعقيدات لا تُحل، و"الأفضل" – وفق منطق الواقعية – هو التكيّف معها.
الواقعية بوصفها قناعًا للانهزام السياسي
كم من مرة قيل لشعب محتل: "كونوا واقعيين، لا يمكن مقاومة قوة عظمى!"، وكم من استبداد داخلي رُوّج له بوصفه "الشر الأقل"، وكم من فساد تم التغاضي عنه باسم "عدم هزّ السفينة"! في كل مرة، تُستخدم الواقعية كستار نفسي لإقناع الشعوب أن المطالبة بالتغيير نوع من التهور، وأن قبول الوضع القائم هو العقل.
إعادة تعريف النجاح: حين يُصبح البقاء في السلطة هو الإنجاز
أخطر ما في وهم الواقعية أنه يُغيّر معايير النجاح والفشل. لم يعد يُقاس نجاح النظام بما ينجزه لشعبه، بل بقدرته على "الاستمرار". ويُصبح السياسي الناجح هو من لا يواجه القوى الكبرى، حتى لو خان قضايا أمته. وهكذا تتحول البصيرة إلى حسابات تكتيكية، والمبادئ إلى عبء يُستبدل بلغة المصالح فقط.
المثالية ليست سذاجة: بل هي الأصل قبل الانحراف
الأنبياء، وهم أرقى القادة في التاريخ، لم يكونوا "واقعيين" بمفهوم اليوم. لم يقبلوا الواقع، بل واجهوه. لم يسايروا القهر، بل تصدوا له. فهل كانوا سذجًا؟ أم أن "الواقعية" التي يُروّج لها اليوم ما هي إلا نسخة مهزومة من السياسة، تُجنّب أصحابها ثمن الموقف، وتُلبس الجبن ثوب الحكمة؟
خاتمة: الواقعية التي لا تُفضي إلى التغيير... تواطؤ
أن تكون واقعيًا لا يعني أن تنحني. أن تفهم موازين القوى لا يعني أن تبرر الظلم. وأن تتحرك في ضوء الممكن لا يعني أن تسلّم بالمفروض. الواقعية السياسية التي تُستخدم اليوم لتبرير كل شيء، لا تختلف كثيرًا عن العجز المغلف بمنطق بارد. والواقعي الحقيقي هو من يقرأ الواقع جيدًا… ليقلبه، لا ليكرّسه.
كلمات مفتاحية: الواقعية السياسية، خطاب التبرير، الانهزام الفكري، الترويض السياسي، السلطة، المثالية، خطاب المصالح، التحليل السياسي.
وصف الصورة المقترحة: رجل يرتدي بدلة رسمية ينظر إلى مرآة يرى فيها نفسه مقيدًا بحبال شفافة، وعلى الجدار كلمة "الواقعية" مكتوبة بأحرف ذهبية تلمع فوق رأسه.