
السلام كمفهوم مُفرغ: من العدل إلى الامتثال
حين يُروّج للسلام دون ربطه بإزالة أسباب النزاع، فإنه يتحول إلى غطاء سياسي لإدامة الظلم. في الحالة الفلسطينية مثلاً، لم تُقدَّم مبادرات "السلام" كاعتراف بحقوق شعب تحت الاحتلال، بل كمقايضة بين السكوت عن القمع وبين مكافآت اقتصادية شكلية. وبذلك، أُفرغ المفهوم من مضمونه الأخلاقي، وأُعيدت هندسته ليصبح "القبول بالأمر الواقع".
التعايش كأداة خطابية لنزع المقاومة
التعايش، في صورته الدعائية، لا يعني اعتراف المعتدي بجرمه أو تصحيح الاختلال التاريخي، بل يعني أن على الضحية أن تتعايش مع ظلمها. وهذا ما يجعل الخطاب خطيرًا: إذ يتم تسويق الخضوع كفضيلة، والمقاومة كإرهاب، والصمت كحكمة. وما يُسمّى "تعايشًا" لا يكون إلا تسوية مفروضة بين طرفين غير متكافئين: محتل ومُحتل، قاهر ومقهور.
التطبيع الثقافي: حين يُجمَّل الاستعمار باسم الانفتاح
جزء من خطاب التعايش يتم تمريره عبر الثقافة والفن والتعليم، فيما يُعرف بـ"التطبيع الثقافي". لا يعود الاحتلال عدوًا بل "جارًا يجب فهمه"، ولا يُصوّر القمع كجريمة بل كـ"واقع يجب التأقلم معه". يتم بذلك إعادة صياغة وعي الأجيال الجديدة على نمط يتقبل الظلم باسم التقدّم والتسامح والانفتاح. وهذا هو أخطر أشكال القمع: حين يُزيَّن في عيون ضحاياه.
النتائج: كيف يُعاد تعريف المظلوم؟
حين يسود خطاب التعايش المزيّف، يُعاد تعريف المظلوم بوصفه المتطرّف، ويُصوَّر من يطالب بحقوقه كمعرقل للسلام. يُمارَس ضغط جماعي على الشعوب لتقنع نفسها أن مطالبها غير واقعية، وأن "العيش بسلام" خير من "الموت من أجل قضية". وبذلك، لا يُنتزع السلاح من يد الظالم، بل من إرادة الضحية.
خاتمة: التعايش الحقيقي لا يقوم فوق ركام العدالة
السلام لا يكون حقيقيًا إلا حين يقوم على الاعتراف المتبادل، وردّ الحقوق، ورفع الظلم. أما حين يُفرض كغطاء لاستمرار القهر، فهو ليس سلامًا بل أداة قمع ناعمة. والتعايش لا يعني أن تنسى الشعوب قضاياها، بل أن تُحلّ تلك القضايا أولًا. وإلا، فلن يكون التعايش سوى شكل جديد من الهيمنة، ووجهًا ناعمًا لاستعمار متجدّد.