دين الوظيفة السياسية: البروتستانتية الأمريكية: الدين الذي صار أيديولوجيا للهيمنة

ليست البروتستانتية مجرّد تيار إصلاحي خرج من رحم الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر، بل تحوّلت مع الوقت، خاصة في الولايات المتحدة، إلى ما يشبه الأيديولوجيا المدنية التي دمجت بين الرأسمالية، والتفوق الأخلاقي، والهيمنة العالمية. لم يكن الأمر مجرد عبادة لله وفق فهم مختلف، بل بناء سردية لاهوتية تمنح أمريكا حق قيادة العالم تحت دعوى "المخلّص المختار" و"نور الإنجيل".

في هذا المقال، نحلل كيف استخدمت البروتستانتية كأداة لإنتاج وشرعنة المشروع الأمريكي الحديث، وتحولت إلى خطاب لاهوتي استعماري متداخل مع القوة العسكرية والاقتصاد النيوليبرالي، حتى باتت تُقدَّم كأنها وجه الحضارة ذاتها.

من الإصلاح الديني إلى الدين المؤسِّس لأمريكا

بدأت البروتستانتية في أوروبا كتحدٍّ للسلطة البابوية والكنيسة الكاثوليكية، لكنها اكتسبت طابعًا مختلفًا تمامًا حين وصلت إلى القارة الأمريكية مع المهاجرين الإنجليز، لا سيما جماعة "البيوريتان". لم يكن هؤلاء مجرد مهاجرين دينيين، بل روّاد مشروع حضاري يعتبر نفسه مكلفًا بإعادة بناء "أورشليم الجديدة" على الأرض الأمريكية.

كان الشعار الضمني أن أمريكا هي "أرض الميعاد" الجديدة، وأن من يستوطنها إنما يخدم خطة إلهية، لتبدأ بذلك عملية مزج خطير بين اللاهوت والسياسة، الدين والجغرافيا، الإيمان والهيمنة.

الرسالة البروتستانتية والتحوّل إلى أيديولوجيا قومية

مع تأسيس الولايات المتحدة، أصبح من المألوف استخدام مفردات دينية في الخطاب السياسي، مثل "أمة تحت الله" و"الحق الإلهي في الدفاع عن الحرية"، حتى الدستور الأمريكي ذاته ظل محاطًا بهالة لاهوتية غير مكتوبة.

بمرور الزمن، تحوّلت البروتستانتية إلى ما يشبه العقيدة القومية:

  • فالنجاح الاقتصادي اعتُبر علامة على رضا الله.
  • والحرب أصبحت "جهادًا مقدسًا" ضد الشر (كما في خطاب جورج بوش الابن).
  • والفقر أو الفشل الشخصي فُسّر بوصفه عقوبة إلهية.

هكذا تماهى الدين مع الأيديولوجيا الرأسمالية، وظهر ما يسمى بـ "الإنجيل الاجتماعي" أو "لاهوت السوق"، وهو تصور ديني يُبرر التفاوت الطبقي، ويدعو للطاعة السياسية، ويرى أمريكا منارة العالم.

التحالف مع الصهيونية: لاهوت نهاية العالم كخطة جيوبوليتيكية

واحدة من أكثر تجليات هذا الدمج خطورة كانت في نشوء التيار الإنجيلي الصهيوني، الذي يرى أن قيام دولة إسرائيل شرط لعودة المسيح. وهنا تجاوز اللاهوت البروتستانتي نطاق العقيدة إلى التدخّل العسكري والسياسي المباشر في الشرق الأوسط.

صار دعم إسرائيل، وتمزيق الدول العربية، وفرض التطبيع، جزءًا من عقيدة دينية عند ملايين من الأمريكيين المحافظين، لا بوصفه مصلحة سياسية فقط، بل واجبًا روحيًا.

التبشير كغطاء للهيمنة الناعمة

ترافق المد البروتستانتي مع مشاريع الإغاثة، التعليم، والصحة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لكنها غالبًا ما كانت غطاء لتوسيع النفوذ الثقافي والسياسي الأمريكي.

تم تصوير أمريكا بوصفها "الخلاص" و"الحرية"، مقابل شعوب "متخلّفة" بحاجة إلى إنجيل السوق والديمقراطية. إنها نسخة حديثة من حملات التنصير الكولونيالية القديمة، لكن بلغة ناعمة ومؤسساتية.

الانقسام الداخلي: من الهيمنة إلى الأزمة

رغم كل هذا، بدأ الداخل الأمريكي يشهد تصدّعًا في هذه السردية البروتستانتية المطلقة. فصعود العلمانية، والفضائح الكنسية، وتناقضات الدعم المطلق لإسرائيل، وتفشّي الفردانية المتطرفة... كل هذا أدى إلى أزمة في الدور السياسي للدين، وانقسامات حادة بين "الإنجيليين الجدد" والتيارات اليسارية العلمانية.

أمريكا اليوم لا تزال تستخدم الخطاب البروتستانتي، لكنه لم يعد موحِّدًا، بل أحد مصادر الانقسام الداخلي والصراع على هوية الدولة.

الخاتمة

البروتستانتية الأمريكية ليست مجرد مذهب ديني، بل مشروع سياسي وروحي متكامل تم استخدامه لصياغة هوية أمريكا، وتبرير تدخلاتها، وتصدير قيمها كرسالة مقدسة. لكنها أيضًا تكشف كيف يمكن للدين أن يُختَزل إلى أداة في يد السلطة، وأن يتحوّل الإيمان إلى أيديولوجيا للهيمنة بدلًا من أن يكون دعوة للتحرّر.

سلسلة: دين الوظيفة السياسية

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.