دين الوظيفة السياسية: المورمونية: ديانة أمريكية بأجندة قومية

في قلب الولايات المتحدة، حيث يفترض أن الدين والدولة في انفصال دائم، نشأت واحدة من أكثر الديانات إثارة للجدل في التاريخ الحديث: المورمونية. لم تكن هذه الديانة نتاج بحث عقائدي روحي فحسب، بل وُلدت ضمن سياق سياسي واقتصادي واجتماعي معقّد، يعكس احتياجات النخبة الأمريكية الصاعدة لبناء هوية قومية دينية تتجاوز التراث الأوروبي وتؤسس لـ"شعب مختار جديد" على أرض جديدة.

النشأة: رؤيا أم هندسة؟

بدأت القصة عام 1820، حين أعلن شاب أمريكي يُدعى جوزيف سميث أنه تلقى وحيًا من الله، ينهى فيه عن جميع المذاهب المسيحية القائمة، ويكشف له وجود كتاب مقدس جديد هو "كتاب مورمون"، مدفون في ألواح ذهبية، سيعيد به "الكنيسة الحقيقية".

لكنّ التوقيت والسياق يطرحان تساؤلات:
كان ذلك زمن التوسع الأمريكي نحو الغرب، وزمن الحلم الأمريكي، وزمن التطلعات لإنتاج مشروع ديني قومي، يتجاوز الكنائس الأوروبية ويُعلن استقلالًا رمزيًا عنها.

الأسطورة المؤسسة: أمريكا هي أرض الأنبياء

كتاب مورمون لا يقدّم فقط تعاليم أخلاقية، بل يُعيد رسم التاريخ المقدس، بادّعاء أن أمريكا الشمالية كانت أرضًا مأهولة بشعوب عبرية قديمة هاجرت من القدس، وأن المسيح نفسه زارها بعد قيامته!

بهذا الطرح، تصبح أمريكا أرضًا مقدسة، وتتحول العقيدة الدينية إلى مشروع قومي رمزي، يؤسس للشرعية الروحية للوجود الأبيض الأوروبي في العالم الجديد.

من الاضطهاد إلى بناء الدولة: يوتا كقاعدة

رُفضت المورمونية بقوة من قبل الكنائس الأمريكية الأخرى، خاصة بسبب ممارساتها مثل تعدد الزوجات، وادعاء النبوة. لكن تحت هذا الرفض، تم حشد أتباع المورمونية إلى بناء "أمة مصغّرة"، وبدأ جوزيف سميث في الترويج لفكرة الحكم الديني التام.

بعد اغتيال سميث، قاد خليفته بريغهام يونغ آلاف الأتباع إلى ولاية يوتا، وأسّس فيها مجتمعًا مغلقًا خاضعًا لسلطة الكنيسة تمامًا. وكان الهدف واضحًا: تأسيس كيان ديني سياسي قد ينفصل عن الدولة الفيدرالية الأمريكية لو أمكن.

التموضع السياسي: من الطائفة إلى اللوبي

مع مرور الزمن، تمكّن المورمون من التحول إلى طائفة أمريكية "محترمة"، تحتفظ بخصوصيتها، وتملك اليوم إمبراطورية مالية ضخمة، وجهازًا استخباراتيًا داخليًا، ونفوذًا سياسيًا ملحوظًا، تمثل في وصول شخصيات مورمونية لمناصب عليا (مثل ميت رومني، مرشح الرئاسة الأمريكية سابقًا).

المثير أن الكنيسة المورمونية كانت آخر طائفة دينية أمريكية تُقرّ بالمساواة العرقية، حيث اعتبرت السود غير مؤهلين للكهنوت حتى عام 1978، ما يكشف عن جذور قومية بيضاء عميقة تحت السطح العقائدي.

المورمونية كدين سياسي

لا يمكن فصل نشأة المورمونية عن الأهداف التالية:

  • الانفصال الرمزي عن أوروبا عبر خلق دين "أمريكي بالكامل".
  • بناء هوية بيضاء مسيانية توازي يهودية الشتات لكنها في أمريكا.
  • تحقيق حلم المدينة الفاضلة تحت سلطة نبي وسياسة كنسية.
  • تأمين شرعية وجود استيطاني استعماري على أرض السكان الأصليين.

بذلك، تتحول المورمونية من مجرد طائفة دينية إلى مشروع سياسي ديني أمريكي الطابع، وواجهة لفكرة "الشعب المختار الجديد" في العصر الحديث.

خاتمة

المورمونية ليست فقط قصة نبي مزعوم وكتاب غامض، بل هي مرآة لعصر نشأ فيه الدين كوسيلة لبناء أمة، والنبوة كأداة هندسة اجتماعية. إنها أحد أبرز النماذج على توظيف العقيدة لتشكيل جماعة متخيلة، لها تاريخها الإلهي الخاص، وجغرافيتها المقدسة، وزعيمها المنزّل، تمامًا كما تفعل النظم السياسية عند تأسيس الدول.

سلسلة: دين الوظيفة السياسية

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.