دين الوظيفة السياسية: كيمبانغو: حين أنشأ المستعمِر نبيًّا.. ثم جعل منه طقسًا يبارك السلطة

في قلب الكونغو المستعمَرة، لم يكن الدين عزاءً سماويًا بقدر ما كان ساحةً للصراع الأرضي. في لحظة سياسية خانقة، ظهر سيمون كيمبانغو نبيًّا إفريقيًّا يتحدّى المستعمر باسم الرب، ويدعو إلى الخلاص من القهر والمهانة. لكن تلك النبوءة، التي وُلدت من نار المقاومة، لم تسر طويلًا في خطها الثوري. فبعد سنوات من السجن والاضطهاد، تحوّل الإيمان الذي أشعل الجماهير إلى دين رسمي مرخّص، ثم إلى مؤسسة منظمة، تُستخدم لشرعنة النظام نفسه الذي وُلدت لمقاومته.

هكذا تحوّل صوت النبوة إلى صدى في حفل رسمي. وتحوّل النبي إلى تمثال على منصة.

دين في مواجهة الاستعمار: كيمبانغو كنبوءة تحرّر

عام 1921، في ظل الاستعمار البلجيكي الوحشي للكونغو، خرج سيمون كيمبانغو بدعوة مزلزِلة:
الله لم ينسَ هذا الشعب. والحرية آتية من أبناء إفريقيا أنفسهم.

كان الناس تحت وطأة العمل القسري، والنهب، والإذلال. فجاء كيمبانغو بلغة مسيحية لكن بروح إفريقية، يداوي المرضى، ويجمع الجماهير، ويجاهر بأن الرب يرفض ظلم البيض.

ما لبث أن رآه المستعمِر تهديدًا لا لاهوتيًا بل أمنيًا. فتم اعتقاله، ومحاكمته، وسُجن مدى الحياة، ليموت بعد أكثر من 30 عامًا في الزنزانة.

ظنّوا أنهم أطفأوا النبوءة. لكن الدين، حين يُولد من الألم، لا يموت بسهولة.

من النبوءة إلى الطائفة: حين صودرت الرسالة

بعد اختفاء كيمبانغو، استمر أتباعه في حمل رسالته، لكن في اتجاه جديد.
تبلورت حركته تدريجيًا في إطار كنيسة مُعترف بها رسميًا: الكنيسة الكيمبانغوية.

في الخمسينيات، ومع اقتراب الاستقلال، حصلت الكنيسة على ترخيص حكومي. لكن ذلك الاعتراف كان مشروطًا:
تحييد الرسالة الثورية، وتوظيف الرمزية النبوية ضمن خطاب الدولة الجديدة.

لم تعد النبوءة تُحرّك الجماهير، بل صارت تُقرأ في الطقوس الرسمية.
أعيدت صياغة كيمبانغو كشخصية روحية، لا كقائد مقاومة. وصار ابنه لاحقًا هو الزعيم الديني، يعلن الولاء للنظام، ويحوّل الكنيسة إلى مؤسسة ترعى الطاعة باسم الإيمان.

تحوّل العقيدة: من صرخة إلى احتفال

تغيّر الخطاب:

  • من رسالة تحررية تهزّ الاستعمار،
  • إلى أناشيد وطنية تُغنّى في المناسبات الرسمية.

صار كيمبانغو أيقونة معلّقة في المدارس، وليس دعوة للنهوض. وصار الدين الذي وُلد في الغضب، وسيلةً لضبط هذا الغضب.

هنا يتجلّى "دين الوظيفة السياسية" بأوضح صوره:
دينٌ يولد من الثورة، ثم يُفرّغ منها، ويُعاد تعبئته في قنينة السلطة.

دينٌ هجين: بين المسيحية والإفريقية

الكنيسة الكيمبانغوية ليست مسيحية خالصة، ولا تقليدية محضة.
إنها تركيبة هجينة:

  • تبنّت رموز الإنجيل والمسيح،
  • لكنها أعادت تفسيرها بعيون أفريقية،
  • فصار كيمبانغو تجليًا للمسيح، وصارت الترانيم تتنفس بروح إفريقية.

لكن بدل أن تكون هذه العقيدة بوابة لاستقلال حقيقي، أصبحت ركيزة للهوية الرسمية التي ترعاها الدولة.

حين يصبح النبي مؤسسة

الخطير في التجربة الكيمبانغوية أنها تُظهر كيف تُحوّل السلطة حتى الدين المعادي لها إلى أداة ضمن نظامها.
لا تُنهيه، بل تُعيد تدويره:

  • تُخرج النبوة من الشارع إلى المكتب،
  • وتحوّل العقيدة إلى ملف تنظيمي،
  • وتُدخل الدين في دواليب الدولة، لا في معارك الشعب.

النبي الذي دعا إلى الحرية، صار جزءًا من احتفالات الدولة التي لم تحرّر أحدًا.

الخاتمة: نبوءة لم تُقتل، بل أُعيد تأويلها

قصة كيمبانغو ليست استثناء، بل مرآة لحالات متعددة في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية:
حيث يولد الدين كصرخة من قاع الاضطهاد، ثم يُختزل إلى شعار يزيّن الجدار.

المشكلة لم تكن في كيمبانغو نفسه، بل فيمن امتلك حق تأويل رسالته، وتطويعها، واستثمارها.
وهذا جوهر "دين الوظيفة السياسية": أن يتحوّل الإيمان من محرّك للرفض، إلى مهدّئ للغضب.

سلسلة: دين الوظيفة السياسية

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.