الإمبريالية.. حين تبتلع القوةُ العالم باسم الحضارة

منذ أن رفع الاستعمار الأوروبي راية "تمدين الشعوب"، والإمبريالية تتغلغل في التاريخ السياسي للعالم الحديث، لا كحركة عسكرية فحسب، بل كمنظومة فكرية واقتصادية متكاملة تهدف إلى فرض السيطرة على الشعوب والأراضي والموارد. هي الوجه المنهجي للاستعمار، والظل الدائم للقوة التي ترفض أن تعيش وحدها دون أن تتحكم في الآخرين.
"الإمبريالية هي أعلى مرحلة من الرأسمالية." – فلاديمير لينين
النشأة والتعريف
كلمة "إمبريالية" تعود جذورها إلى اللاتينية Imperium بمعنى "السلطة العليا" أو "الحكم المطلق". تاريخيًا، تجسدت في إمبراطوريات توسعية كالإمبراطورية الرومانية، ثم استعادت حضورها بقوة في القرنين التاسع عشر والعشرين مع التمدد الأوروبي في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
الإمبريالية ليست مجرد احتلال عسكري؛ إنها نظام متكامل يمزج بين القوة المسلحة، والهيمنة الاقتصادية، والسيطرة الثقافية.
الأهداف المعلنة
قدّمت القوى الإمبريالية نفسها كـ"حاملة للحضارة" و"ناشرة للتقدم"، مستندة إلى خطاب "الرسالة التمدينية" (The Civilizing Mission)، التي زعمت أن هدفها تعليم الشعوب "المتأخرة" قيم الديمقراطية والتحديث.
لكن خلف هذه الشعارات، كان الهدف الحقيقي هو:
- السيطرة على الموارد الطبيعية.
- احتكار طرق التجارة العالمية.
- إخضاع الشعوب سياسياً وعسكرياً.
الإمبريالية في ثوبها الحديث
اليوم، لم تعد الإمبريالية دائمًا مدافعًا وسفنًا حربية ترسو على الشواطئ. في عصر العولمة، تغيّر شكلها إلى:
- التدخل العسكري المحدود: حروب "وقائية" أو "إنسانية" لتغيير أنظمة الحكم.
- الهيمنة الاقتصادية: عبر الديون، وشروط المؤسسات المالية الدولية.
- الغزو الثقافي: فرض أنماط حياة واستهلاك تخدم مصالح الشركات الكبرى.
غزة.. مثال على الإمبريالية المعاصرة
في المشهد الفلسطيني، تتجسد الإمبريالية في تحالف القوى الكبرى مع الاحتلال الإسرائيلي، ليس بدافع "الدفاع عن الديمقراطية" كما يزعمون، بل لحماية قاعدة عسكرية متقدمة تخدم مصالحهم الاستراتيجية في الشرق الأوسط. الدعم العسكري والسياسي بلا شروط، والحصانة الدبلوماسية في المحافل الدولية، كلها ملامح إمبريالية واضحة ترتدي عباءة "حقوق الإنسان" لكنها تنتقي ضحاياها.
الوجه الأخلاقي المزيف
كما بررت الإمبريالية القديمة احتلال إفريقيا وآسيا بـ"تمدين البرابرة"، تبرر الإمبريالية الحديثة تدخلاتها بـ"محاربة الإرهاب" أو "نشر الديمقراطية". لكن النتيجة واحدة: استنزاف الموارد، تدمير البنية التحتية، وإبقاء الشعوب رهينة التبعية.
الإحصائيات وتأثيرها العالمي
تشير الإحصائيات التاريخية والاقتصادية إلى أن القوى الإمبريالية في القرن التاسع عشر استولت على أكثر من 85% من أراضي العالم، مستغلة الموارد الطبيعية لشعوبها بما أدى إلى تغيرات جذرية في الاقتصادات المحلية. وفقًا لتقارير حديثة، تتحكم اليوم أقل من عشر دول كبرى في أكثر من 70% من تدفقات التجارة العالمية، بينما يسيطر النظام المالي الدولي على ديون أكثر من 150 دولة نامية، مما يعمق تبعيتها. وفي الجانب الثقافي، تشير الدراسات إلى أن أكثر من 60% من الإعلام العالمي تهيمن عليه شركات تابعة للدول الكبرى، مما يسهم في إنتاج ونشر خطاب إمبريالي معاصر يبرر الهيمنة السياسية والاقتصادية. هذه الأرقام تعكس استمرار الإمبريالية في شكلها الحديث، مستندة إلى أذرع متعددة ومتشعبة.
الخاتمة
الإمبريالية ليست حدثًا تاريخيًا انتهى، بل عقلية سياسية ما زالت تحكم علاقات القوى الكبرى بالعالم. الفرق بين الأمس واليوم أن المدافع والسفن تحولت إلى مؤسسات مالية وإعلامية، وأن الخطاب تغيّر من "التمدين" إلى "حقوق الإنسان". وفي غزة، كما في كثير من بقاع الأرض، لم يتغير جوهر الإمبريالية: إنها مشروعٌ دائم لابتلاع العالم باسم الحضارة.