
حين يُذكَر الدين، يتبادر إلى الذهن معبدٌ وإلهٌ وكاهنٌ وطقوسٌ تُمارس قربانًا للسماء. لكن ماذا عن نظام أخلاقي بلا إله، بلا معجزة، بلا وحي، يتحوّل رغم ذلك إلى ديانة رسمية تُشرعن الحكم، وتؤسس الولاء، وتُنظّم المجتمع بأكمله؟
الكونفوشيوسية لم تولد كدين، بل كفلسفة أخلاقية، لكنها لم تبقَ كذلك. ففي لحظة سياسية حرجة في تاريخ الصين، جرى تحويل هذه التعاليم إلى منظومة طاعة مقدسة، تُلبّي حاجة الدولة المركزية لضبط المجتمع وترسيخ الطاعة تحت شعار "الفضيلة".
في هذا المقال، نحفر في أعماق اللحظة التي تحوّلت فيها الحكمة إلى شريعة، والتعاليم إلى طقوس، والفيلسوف إلى نبي صامت.
فيلسوف بلا وحي: من هو كونفوشيوس؟
عاش كونفوشيوس في القرن السادس قبل الميلاد، في فترة اضطراب سياسي عميق داخل الصين القديمة، حيث كانت الممالك تتصارع، والنظام الاجتماعي ينهار.
قدّم رؤيته لإعادة الانسجام الاجتماعي عبر التركيز على الأخلاق، والواجبات الأسرية، واحترام التسلسل الهرمي. لم يتحدث عن آلهة، بل عن "السماء" كرمز للنظام الكوني، وعن الإنسان الذي عليه أن يجد دوره من خلال الانضباط الذاتي والطاعة.
لحظة التحوّل: من تعاليم فلسفية إلى دين إمبراطوري
في عهد سلالة "هان" (القرن الثاني قبل الميلاد)، تبنّت الدولة الكونفوشيوسية كعقيدة رسمية، فبدأ تحويلها تدريجيًا إلى نظام طاعة ديني الطابع:
- أُنشئت معابد تحمل اسمه.
- رُفعت أقواله إلى مرتبة مقدسة.
- صارت الطقوس الكونفوشيوسية جزءًا من التعليم والإدارة.
- أصبح احترام الأبوين والطاعة للإمبراطور واجبًا أخلاقيًا يُعادل الإيمان الديني.
لقد صُمّم هذا التحوّل لخدمة الدولة، لا لخلاص الفرد.
الإيمان بلا إله: طقوس الطاعة والانضباط
الكونفوشيوسية ديانة بلا صلاة، لكن بها شعائر احترام الأسلاف، وتقديس الطقوس، واحتفالات منظمة تعيد إنتاج السلوك الاجتماعي المرغوب فيه.
لا إله يأمر، بل النظام يُقدّس. والطاعة ليست عبودية، بل "فضيلة". والخضوع للأسرة وللدولة هو السبيل إلى الانسجام الكوني.
هكذا صيغت عقيدة تَخدُمُ الدولة المركزية، وتُنتج مواطنًا مثاليًا بلا تمرّد، متصالحًا مع التسلسل، مخلصًا للسلطة بوصفها تعبيرًا عن النظام الطبيعي.
الدين بوظيفة أخلاق الدولة
الكونفوشيوسية ليست دينًا يدعو إلى الجنة، بل إلى الاستقرار. ليست وحيًا، بل أداة ضبط اجتماعي.
لقد وفّرت للأنظمة الإمبراطورية في الصين عبر القرون بنية أيديولوجية متماسكة، تبرّر الامتثال، وتُدين التمرّد، وتُقدّس الحاكم بصفته "أب الأمة"، أي امتدادًا للتراتبية الأسرية المقدسة.
الحداثة والعودة: من ماو إلى شي جين بينغ
رغم محاولات محو الكونفوشيوسية أثناء الثورة الثقافية الشيوعية، أعاد النظام الصيني المعاصر إحياءها، ليس كدين، بل كنظام طاعة ناعم.
في عهد شي جين بينغ، تم ترويج تعاليم كونفوشيوس داخل المدارس والمؤسسات، لتدعيم "القيم الصينية"، أي الولاء للنظام، ورفض الفردانية، وتقديس السلطة باسم الانسجام.
خاتمة: حين تُستدعى الحكمة لخدمة الحكم
الكونفوشيوسية تُمثّل واحدًا من أوضح نماذج "دين الوظيفة السياسية": دين بلا إله، لكنه يصنع مجتمعًا خاضعًا؛ بلا وحي، لكنه يُنتج سلطة؛ بلا جنة أو نار، لكنه يضبط السلوك كأداة سلطة أبدية.
هي برهان على أن الدين لا يحتاج دومًا إلى غيبيات، بل يكفي أن يُنتج نظامًا معنويًا يخدم السلطة، فيصير بذلك دينًا... حتى لو أنكر أصحابه أنه دين.
سلسلة: دين الوظيفة السياسية