مذكرة نزع سلاح حماس: حين تتحول الأنظمة إلى أداة لتفكيك المقاومة

في حدث سياسي غير مسبوق، أعلنت كافة دول جامعة الدول العربية تأييدها لمذكرة دولية تطالب حركة حماس بتسليم سلاحها، وإنهاء حكمها في غزة، ونقل السلطة إلى السلطة الفلسطينية تحت إشراف دولي. المذكرة التي صيغت في مؤتمر "إعلان نيويورك" في يوليو 2025، جاءت بمشاركة عربية واسعة وبغطاء غربي صريح، وأُرفقت بدعوات لوقف الحرب، إطلاق سراح الرهائن، والمضي في مشروع "السلام الدائم".

لكنّ القراءة الأعمق لهذا الحدث لا تكمن في نصوصه المعلنة، بل في بنيته الخطابية، وتوقيته، والمصالح المركّبة التي تقف وراءه. فهل نحن أمام مبادرة سلام، أم بداية مرحلة جديدة من تفكيك المقاومة الفلسطينية برعاية عربية؟

حين تتحول المساعدات إلى حصار ناعم

اللافت في توقيت المذكرة أنها جاءت بعد فشل إسرائيل، طيلة عشرة أشهر من الحرب، في القضاء على حماس عسكريًا أو سياسيًا. وهنا تظهر وظيفة المذكرة: استكمال الحرب بأدوات دبلوماسية، حين تعجز القوة العسكرية عن الحسم.

المساعدات الإنسانية، وفتح المعابر، وإعادة الإعمار، كلها أدوات يُعاد توظيفها الآن كورقة ابتزاز: إمّا تنزع المقاومة سلاحها، وإما يُواصل العقاب الجماعي على المدنيين. إنه نموذج من "الحصار الناعم"، لا يُعلن الحرب لكنه يُملي شروط الاستسلام.

صناعة سردية بديلة: من مقاومة إلى "عقبة للسلام"

الخطير في هذه المذكرة أنها لا تطرح تسوية سياسية عادلة، بل تُعيد تعريف الخطر: لم يعد الاحتلال هو جوهر الأزمة، بل السلاح غير الرسمي للمقاومة. بهذه الصيغة، تُشرعن الأنظمة العربية الرواية الإسرائيلية، وتُلبس العدوان ثوب "الدفاع عن النفس".

وما يدعو للتساؤل: كيف تطالب هذه الدول بنزع سلاح الطرف الفلسطيني، بينما لا تُطالب بنزع سلاح الدولة المحتلة؟ كيف تُدين 7 أكتوبر ولا تُدين الحصار المستمر منذ 17 عامًا؟ إنها سردية مزدوجة، تُجرّد المقاومة من شرعيتها وتُبيّض يد المعتدي.

السلطة الوظيفية: إعادة إنتاج "الحكم المناسب"

المذكرة تفتح الباب أمام ما تسميه بـ"خطة انتقالية" لإدارة غزة، يُعاد من خلالها تمكين السلطة الفلسطينية في القطاع، بعد أن تم استبعادها شعبيًا وسياسيًا منذ عام 2007. لكنّ هذا ليس تمكينًا وطنيًا، بل إعادة تأهيل سلطة وظيفية، تُبقي على الاحتلال وتحرس مصالحه، تحت عنوان "بناء الدولة".

الهدف ليس إنهاء الاحتلال، بل إنهاء كل طرف لا يقبل بالتعايش معه. وهذا جوهر "السلام المفروض": دولة دون سيادة، حكم دون مقاومة، وسلام لا يُزعج ميزان القوى القائم.

الشرعية الشعبية في مواجهة الشرعية الرسمية

في المقابل، لم تُواجه هذه المذكرة بترحيب شعبي، بل بصمت غاضب. فالمزاج الشعبي العربي، رغم كل محاولات القمع والتطبيع، لا يزال يرى في المقاومة صوتًا للكرامة المهدورة. وكلما تزايد الضغط الرسمي على حماس، ازداد الالتفاف الشعبي حولها، حتى من خارج معاقلها التقليدية.

وبينما يُعاد رسم خارطة الشرعية في غرف الفنادق، تُولد شرعية بديلة في الوعي العام، تُفاضل بين من يفاوض على الحق، ومن يدافع عنه، ولو وحده.

ضع الأنظمة العربية أمام الرأي العام لشعوبها

تُواجه الأنظمة العربية الموقعة على المذكرة مأزقًا أخلاقيًا وسياسيًا أمام شعوبها، لم يسبق له مثيل منذ عقود. فبينما تسوّق نفسها دوليًا كـ"قوى عقلانية" تسعى إلى حل الصراع، تُدرك هذه الأنظمة أن الشارع العربي لا يرى في المقاومة عبئًا، بل تجسيدًا حيًّا للكرامة والصوت المقموع.

الاحتفالات الإعلامية الرسمية بالمذكرة تقابلها موجات صامتة من الغضب الشعبي، لا يُعبّر عنها في الشوارع بفعل القمع، لكنها تتجلّى في الوعي، والمواقف، وحملات المقاطعة، والدعوات الرقمية الداعمة للمقاومة. فالمفارقة التي لا تريد الأنظمة الاعتراف بها هي أن توقيعها على مذكرة نزع السلاح لا يُفسَّر شعبيًا كموقف من "حماس"، بل كموقف من فلسطين ذاتها، ومن كل من يجرؤ على رفع صوته في وجه الاستسلام.

وهكذا، بينما تسعى الأنظمة إلى تلميع صورتها أمام الغرب، فإنها تفقد ما تبقّى من رصيدها الأخلاقي أمام شعوبها، لتغدو ممثّلة لصفقة لا يملك أحد في الداخل تفويضًا لها، ولا يحظى أصحابها بأي شرعية شعبية حقيقية.

ليست معركة سلاح فقط.. بل معركة سردية

من هنا، يتجاوز أثر المذكرة المجال السياسي إلى المجال الرمزي. فالمعركة الحقيقية لم تعد فقط على الأرض، بل على مستوى الخطاب والوعي والتمثيل: من يُمثّل الفلسطينيين؟ من يتكلم باسمهم؟ من يُحدّد مستقبلهم؟

إنه صراع بين مشروعين:

  • مشروع يقاوم ليعيش بكرامة.
  • ومشروع يُسلِّم ليعيش مشروطًا.

وهذا ما يجعل من نزع السلاح ليس مجرد مطلب سياسي، بل مقدّمة لنزع الهوية والمقاومة والحق في التحرر.

الخلاصة:

ما جرى في نيويورك ليس إعلان سلام، بل إعلان اصطفاف.
هو انتقال رسمي من "الرعاية العربية للقضية الفلسطينية" إلى "رعاية عربية للحل الإسرائيلي".

وحين تتحوّل الأنظمة إلى وكلاء لنزع السلاح بدلاً من وكلاء للتحرر،
يصبح من حق الشعوب أن تسأل:
من يُمثّلنا فعلًا؟ ومن يُفاوض باسم من؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡