الاعتراف الأوروبي بفلسطين: نفاق جديد أم إعادة تدوير للاستعمار؟

في الوقت الذي تتواصل فيه المجازر بحق الفلسطينيين، خرجت بعض الدول الأوروبية كفرنسا وبريطانيا لتعلن "رغبتها" في الاعتراف بدولة فلسطين. وللوهلة الأولى قد يبدو هذا التحوّل خطوة إيجابية في مسار العدالة الدولية، لكن خلف هذا الإعلان ما يستحق التوقّف والتفكيك، خصوصًا أن هاتين الدولتين كانتا من أبرز صانعي النكبة الفلسطينية في الأصل.

أهداف خفية خلف الاعتراف المفاجئ

امتصاص الغضب الشعبي

بعد مشاهد الإبادة في غزة، اجتاحت العواصم الأوروبية مظاهرات غاضبة، أبرزها في باريس ولندن، التي شهدت زخمًا شعبيًا مناهضًا للسياسات الغربية المنحازة. ومع تصاعد الضغط الداخلي، وجدت الحكومات نفسها بحاجة إلى خطاب يُخفف من وطأة الانتقادات، دون أن يغيّر فعليًا في تحالفاتها، فكان الاعتراف بفلسطين حركة رمزية لامتصاص الغضب، لا أكثر.

ترميم الصورة الأخلاقية المهترئة

دول الغرب التي طالما قدّمت نفسها كحامية لحقوق الإنسان، وجدت نفسها أمام فضيحة أخلاقية بعد دعمها الأعمى لإسرائيل. ومن هنا جاء الاعتراف بفلسطين كـ"تبييض سياسي" يعيد ترميم صورة الغرب، ويقدّمه وكأنه وسيط نزيه في نزاع دموي.

إعادة تأهيل مشروع التسوية

تحاول فرنسا وبريطانيا عبر هذا الاعتراف أن تعيد القضية إلى مربع التفاوض الفارغ، بتقديم "حل الدولتين" كبديل مقاوم للسلاح، والضغط لإعادة السلطة الفلسطينية كفاعل مركزي، مقابل تحجيم الفصائل المقاومة وتجريمها ضمنيًا. إنه محاولة لعزل المقاومة وإعادة إنتاج أوسلو بحلة جديدة.

الالتفاف على عزل إسرائيل دوليًا

مع تصاعد الأصوات الدولية لعزل إسرائيل، ومنادات منظمات وشعوب بعقوبات حقيقية، تسعى أوروبا لاحتواء تلك الموجة بمسار بديل: منح الفلسطينيين اعترافًا رمزيًا بدولة بلا سيادة، بلا عودة، بلا سلاح. هي دولة مجمّدة وظيفتها الوحيدة وقف المسار التصعيدي ضد الاحتلال.

تصفية القضايا الكبرى

في جوهر هذا الاعتراف تكمن محاولة دفن قضايا اللاجئين والقدس والحق التاريخي، عبر ترسيخ رؤية تقوم على إنشاء دولة فلسطينية على حدود 1967 فقط، دون الحديث عن جوهر المشروع الصهيوني أو نزع شرعيته، بل بما يكرّسه كأمر واقع مقابل بعض "الحقوق الشكلية" للفلسطينيين.

مفارقة التاريخ: من أعطى الوعد.. يمنح الاعتراف!

إن التناقض الصارخ يتمثل في أن الدول ذاتها التي أسهمت في إقامة إسرائيل ودعمتها بالسلاح والدبلوماسية، هي نفسها من تدّعي اليوم دعمها لحق الفلسطينيين بدولة. بريطانيا التي أصدرت وعد بلفور، وفرنسا التي دعمت البرنامج النووي الإسرائيلي، تحاولان الآن أن تظهرا كأنهما راعيتا "حل الدولتين"، في مشهد من النفاق الاستعماري المكرر.

موقف الدول العربية أمام شعوبها

في ظل هذا المشهد، تجد الأنظمة العربية نفسها مكشوفة أمام شعوبها. فبينما تتظاهر أوروبا بالتحرّك –ولو شكليًا– نحو الاعتراف بفلسطين، لا تزال بعض الحكومات العربية عاجزة عن مجرد قطع العلاقات الرمزية مع الاحتلال. ويتعاظم التناقض حين تسعى هذه الأنظمة لترويج أن "الاعتراف الأوروبي" إنجاز سياسي، في الوقت الذي ترفض فيه اتخاذ مواقف أكثر حزمًا أو حتى دعم المقاومة سياسيًا، خوفًا من التبعات الغربية. هكذا تتعرّى الأنظمة أمام وعي شعبي بات أكثر إدراكًا لمساحات النفاق والتواطؤ.

خلاصة: استعمار ناعم بثوب أخلاقي

الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين في صيغته الراهنة ليس مكسبًا وطنيًا ولا انتصارًا أخلاقيًا، بل إعادة تدوير لاستعمار قديم بأدوات ناعمة. هو محاولة لتجميل المشروع الصهيوني، وترويض المقاومة، وإعادة إنتاج الهيمنة الغربية على القضية، لا رفعها إلى مصاف العدالة.

ولذا فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في عدد الدول التي تعترف، بل في مدى قدرة الفلسطينيين والعرب على كشف هذا الخداع السياسي وتفكيك سردياته الناعمة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡