تحوّلات في أمريكا اللاتينية: هل تعود روح الثورة في مواجهة الهيمنة؟

في ظلّ عالمٍ يزداد انكشافًا وتصدّعًا، تعود أمريكا اللاتينية إلى الواجهة، لا بوصفها ساحة خلفية للهيمنة الغربية كما اعتادت لعقود، بل كمختبر جديد لإرادة الاستقلال وإعادة تعريف السيادة. لقد شهدت المنطقة في الأعوام الأخيرة تحوّلات سياسية متسارعة، تُذكّر بالموجة اليسارية الثورية التي اجتاحت القارة في مطلع الألفية، لكنها اليوم تتخذ شكلًا أكثر نضجًا وتركيبًا، أقل شعاراتية، وأكثر وعيًا بمكائد القوة الناعمة والهندسة السياسية الغربية.

يسارٌ يعود من الصناديق.. لا من الغابات

تأتي عودة التيارات اليسارية إلى الحكم في دول مثل البرازيل وتشيلي وكولومبيا ليس عبر الانقلابات أو الجبهات المسلحة، بل من خلال أدوات "الديمقراطية الانتخابية" التي طالما استُخدمت لتكريس النظم النيوليبرالية المتحالفة مع واشنطن. المفارقة أن هذه العودة تحدث في وقتٍ تتراجع فيه الثقة العالمية بالنموذج الديمقراطي الليبرالي، ما يجعل التجربة اللاتينية شديدة الدلالة.

فـ لولا دا سيلفا عاد إلى رئاسة البرازيل بعد استبعاده سياسيًا وسجنه بتهم ثبت تسييسها لاحقًا. وفي تشيلي، التي كانت رمزًا لنجاح النموذج النيوليبرالي القائم على الخصخصة والامتثال لصندوق النقد، وصل إلى الحكم جيل جديد يحمل رواية معاكسة. أما كولومبيا، الدولة التي شكّلت تاريخيًا قاعدة متقدمة للنفوذ العسكري والاستخباراتي الأمريكي، فقد شهدت فوز رئيس يساري لأول مرة في تاريخها، في لحظة مفصلية.

فلسطين كمؤشر للاتجاه العام

ليست مواقف هذه الدول من العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة تفصيلًا، بل مؤشرًا صريحًا على تحوّل المزاج السياسي. فقد اتخذت حكومات مثل بوليفيا وكولومبيا وتشيلي مواقف علنية وجريئة ضد إسرائيل، شملت سحب السفراء، وتعليق التعاون العسكري، وإدانة المجازر بلهجة خالية من التردد.

هذه المواقف لا تعكس فقط تعاطفًا إنسانيًا، بل تؤشّر إلى رغبة في فكّ الارتباط مع الاصطفاف الغربي الأعمى، واستعادة القدرة على اتخاذ مواقف سيادية تعبّر عن الضمير الشعبي لا عن التعليمات الدبلوماسية القادمة من واشنطن.

الثورة تتطوّر: من البندقية إلى التوازنات الدولية

ما يُسمّى بـ"روح الثورة" في أمريكا اللاتينية لم تعد تعني فقط الكفاح المسلّح، بل مقاومة الهيمنة من داخل النظام نفسه: عبر الانتخابات، والمؤسسات، وفضح المعايير المزدوجة، والانفتاح على شركاء دوليين جدد. لم تعد الثورة شعارًا، بل أصبحت استراتيجية طويلة النفس لمواجهة الاختراقات السياسية، والعقوبات، والتدخلات الناعمة.

لكن التحديات هائلة: فالقارة تعاني من اختراق اقتصادي وإعلامي واستخباراتي عميق، كما أن كثيرًا من دولها مرهونة ماليًا لدوائر القرار الغربية. هنا، تظهر الحاجة إلى تحالفات جديدة، سواء عبر تكتلات إقليمية مثل ميركوسور، أو عبر البوابة العالمية لتجمع البريكس.

هل هي عودة كاملة؟ أم مجرد موجة جديدة للضبط؟

رغم ما تحمله هذه التحوّلات من إشارات إيجابية، إلا أن كثيرًا من القوى الدولية لن تقف مكتوفة الأيدي. هناك محاولات واضحة لـ"تدجين" اليسار الجديد وجعله أكثر مطاوعة، وتحويل صعوده إلى مجرد تغيير في الأسلوب لا في الجوهر. كما تُستخدم أدوات مثل القضاء، الإعلام، ومنظمات "الشفافية" كسلاح لإسقاط الزعامات التي لا تنصاع للخط النيوليبرالي.

لكن، رغم كل ذلك، ما يحدث في أمريكا اللاتينية اليوم يستحق الرصد الجاد. إنه ليس فقط تمردًا على نظام اقتصادي، بل على سردية سياسية كاملة كانت تعتبر الانتماء للمحور الأمريكي قدرًا لا يُرد.

خاتمة

أمريكا اللاتينية تقف اليوم على مفترق طرق: إما أن تكون مختبرًا لصيغة جديدة من السيادة المستقلة، أو تتحوّل إلى ساحة لإعادة تدوير أدوات الوصاية بقفازات يسارية. وبينما تنشغل القوى الكبرى بتقاسم النفوذ في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، يبدو أن قارة الجنوب قد قررت أن تكتب روايتها من جديد.. ولكن هذه المرة، دون إذن من واشنطن.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡