
فهل نحن أمام تصدّع فعلي في بنية الدعم الغربي؟ أم أن ما نشهده ليس أكثر من إعادة تموضع مؤقت لتجميل الوجه الاستعماري؟ وهل يمكن للشارع الغربي أن يفرض على أنظمته حدودًا في الدعم غير المشروط لإسرائيل؟
أزمة سردية لا أزمة علاقات
الذي تصدّع أولًا لم يكن التحالف السياسي، بل السردية الأخلاقية التي كانت تُستخدم لتبرير هذا التحالف. لقد وجد الرأي العام الغربي نفسه للمرة الأولى في مواجهة صور غير قابلة للإنكار: مئات الأطفال تحت الركام، أحياء تُباد كاملة، وصحفيون يُقصفون على الهواء. لم يعد من الممكن حصر النقاش في مقولات الدفاع عن النفس، أو ربط كل انتقاد لإسرائيل باللاسامية. السردية تهاوت، وإن لم تتهاوَ السياسات بعد.
بل إن بعض وسائل الإعلام الغربية، التي طالما شكّلت أداة دفاع متقدمة عن إسرائيل، بدأت تتعرّض لضغط غير مسبوق من صحفييها أنفسهم، الذين طالبوا بتغطية مهنية، أو استقالوا، أو فضحوا التعليمات التحريرية المنحازة.
أوروبا تتردّد.. وأمريكا تناور
في أوروبا، ظهرت تصدّعات أولية: وزراء، برلمانيون، بل وموظفون أمميون أعلنوا رفضهم لجرائم الحرب الإسرائيلية. جامعات علّقت تعاونها مع مؤسسات إسرائيلية، ومظاهرات حاشدة رفعت شعار وقف تسليح إسرائيل. ألمانيا، التي طالما اعتبرت دعم إسرائيل جزءًا من "مسؤوليتها التاريخية"، بدأت تواجه تمزقًا داخليًا بين الرواية الرسمية والغضب الشعبي.
أما الولايات المتحدة، فالتصدّع لا يزال محكومًا بسقف عالٍ. صحيح أن واشنطن تعرضت لانتقادات غير معهودة من داخل الكونغرس ومن شخصيات في الحزب الديمقراطي، لكن إدارة بايدن بقيت متماسكة في دعمها العسكري والسياسي. بل إن كل حديث عن "الهدنة" أو "وقف النار" كان مشروطًا بضمان تفوق إسرائيل الميداني. الدعم لم يتراجع، وإنما أعيد تسويقه بلغة إنسانية لا تخفي ازدواجية المعايير.
هل تتحرّك الدول بدافع أخلاقي؟
لا يُمكن فصل أي مراجعة غربية – جزئية أو رمزية – لدعم إسرائيل عن التحوّلات الجيوسياسية الكبرى. فالغرب اليوم في مأزق عالمي: حرب في أوكرانيا لم تُحسم، تصاعد في النفوذ الصيني، شروخ داخل حلف الناتو، وانتقادات من الجنوب العالمي بشأن المعايير المزدوجة. لذا، فإن بعض بوادر التراجع الظاهري في الدعم قد لا تكون ناتجة عن "يقظة ضمير"، بل عن الحاجة لإعادة التموضع الاستراتيجي.
بمعنى آخر: الدول لا تُراجع أخلاقها، بل مصالحها وصورتها العالمية. وإذا أصبحت تكلفة دعم إسرائيل مرتفعة على مستوى الرأي العام والشرعية الدولية، فإن بعض الحكومات الغربية قد تسعى إلى إعادة توازن لغوي في خطابها، دون أن تمس جوهر العلاقة الاستراتيجية.
إذًا.. تصدّع حقيقي أم مناورة؟
الجواب الأكثر دقة: الاثنان معًا. نحن أمام تصدّع سردي وأخلاقي حقيقي على مستوى المجتمعات، والشعوب، وقطاعات من النخبة الإعلامية والأكاديمية. لكن هذا لم يتحوّل بعد إلى تحوّل استراتيجي في الموقف السياسي الرسمي. فالدعم العسكري والمالي قائم، والحماية في مجلس الأمن مستمرة، والتطبيع بين الغرب وإسرائيل لا يزال يعتبر تحصيل حاصل.
ومع ذلك، فإن ما حدث يفتح نافذة تاريخية: إن تكرّرت هذه المجازر، وإن استمر الشارع الغربي في الضغط، فإن بعض الدول الغربية قد تجد نفسها مضطرة، لا مخيّرة، إلى إعادة تقييم تحالفاتها.
خاتمة
ما يتصدّع اليوم ليس فقط دعمًا لإسرائيل، بل سردية كاملة بُنيت عليها منظومة الهيمنة الغربية: سردية "الحرية"، "المدنية"، "حقوق الإنسان". ولذلك فإن لحظة غزة ليست لحظة فلسطينية فقط، بل لحظة كاشفة للنظام العالمي، ولبنية النفاق التي يدير بها الغرب مشهده الأخلاقي. فهل تكون هذه بداية التعرية الكاملة؟ أم مجرد عملية تجميل مرحلية قبل العودة إلى القتل تحت شعار الدفاع؟