
التوحيد كسلاح سياسي
ظهر محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر وسط سياق من التعدد الديني والقبلي في نجد، ورفع شعار "تجريد التوحيد"، لكنه لم يكن اجتهادًا فقهيًا محضًا، بل مشروعًا لإلغاء كل ما عداه من تعبيرات إسلامية، سواء كانت صوفية أو شعبية أو مذهبية. ومن خلال التحالف مع آل سعود، تحوّل هذا الشعار إلى أداة لاجتثاث التعدد باسم النقاء، ولتوحيد القبائل تحت راية واحدة عبر العنف المشرعن دينيًا.
هدم القبور... وتشييد السلطان
ركّز الخطاب الوهابي على هدم القبور وقباب الأولياء، وتجفيف المظاهر الدينية الشعبية، بدعوى محاربة "الشرك". لكن السؤال الأعمق: لماذا كانت هذه المظاهر مستهدفة؟ لأنها كانت تمثّل استقلالًا دينيًا شعبيًا خارج سلطة الدولة المركزية الناشئة. لقد كانت الوهابية طريقة للقول: لا مرجعية إلا للعقيدة الرسمية، ولا ولاء إلا للإمام الحاكم، وكل ما عداه بدعة. هكذا، تقاطع الديني مع الأمني، وتحول الهدم من رمزي إلى سلطوي.
التديّن المراقب
لم يكن الخطاب الوهابي دعويًا بقدر ما كان رقابيًا. تمّ تكوين جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليصبح الدين حارسًا اجتماعيًا دائمًا. كان المطلوب من المواطن أن يكون وهابيًا لا إسلاميًا فحسب، وأن يُراقب نفسه والآخرين وفق تصوّرات محددة مسبقًا. الدين هنا لم يكن تجربة روحية، بل نظامًا للضبط الاجتماعي. وهكذا، تمّت "أدلجة" الإيمان وتحويله إلى أداة في يد السلطة المركزية.
تصدير الوهابية: من الداخل إلى الخارج
مع صعود الثروة النفطية، بدأ النظام السعودي بتصدير النسخة الوهابية إلى العالم الإسلامي، تحت عنوان "نشر الإسلام الصحيح". لكن الحقيقة أن هذا التصدير لم يكن دينيًا خالصًا، بل سياسيًا، ضمن معادلات الحرب الباردة، ومحاولة موازنة نفوذ القوميين والتيارات اليسارية والشيعية في المنطقة. لقد أصبح الدين أداة في السياسة الخارجية، وتحولت الوهابية من خطاب إصلاح محلي إلى سردية كونية مشروطة بولاءات سياسية.
ما بعد الصحوة
في العقود الأخيرة، وبعد مرحلة "الصحوة الإسلامية" التي غذّتها الوهابية نفسها، اصطدم النظام السعودي بتيارات دينية خرجت من عباءته وطالبت بمشروع سياسي على أساس ديني. فبدأ التخلّي التدريجي عن الوهابية كخطاب رسمي، لصالح خطاب قومي، ثم انفتاحيّ، يُركّز على الترفيه والسياحة والانفتاح الاجتماعي. لكن المعضلة أن الوهابية التي استُخدمت لعقود لتأسيس المشروعية الدينية لم تعد قابلة للتفكيك دون ثمن رمزي كبير.
الخاتمة:
الوهابية لم تكن مجرّد اجتهاد ديني، بل كانت مشروعًا تحالفيًا بين الدعوة والسلطة، وظّف الدين لبناء الدولة، ثم وظّف الدولة لاحتكار الدين. لقد نشأت بوصفها حركة "توحيد"، لكنها مارست الإقصاء، ورفعت شعار "السنة"، لكنها حاربت كل تجليات التنوع السني. واليوم، بينما تُفكك الدولة السعودية أدواتها القديمة، تظل آثار الوهابية عالقة في البنية الاجتماعية والنفسية، بوصفها دينًا سياسيًا لا يُعالج بالإصلاح، بل بالفهم والتفكيك.
سلسلة: دين الوظيفة السياسية